وسط أكوام النفايات المنتشرة على جنبات شوارع صنعاء شمالي اليمن، يقضي العشرات من الفقراء والمعدمين ساعات طوالاً بحثاً عن بقايا طعام، أو مخلفات قابلة لإعادة التدوير آملين بيعها بقيمة وجبة بائسة.
هذا هو العام الخامس منذ شن التحالف العربي بقيادة السعودية الحرب على جماعة أنصار الله (الحوثيون)، في مارس/ آذار 2015؛ الحرب التي طالت تداعياتها المدنيين، ولم تستثن أوضاعهم المعيشية؛ فأعداد الجياع لا تزال في تصاعد، وآلاف الأسر تواجه شبح الجوع، في ظل التوزيع غير العادل للمساعدات الإغاثية.
في منطقة السُّنينة غربي مدينة صنعاء، أصبحت مظاهر نبش القمامة يومية. أطفال، نساء وكبار سن، يعملون بصمت في نبش أكوام القمامة. معظمهم يشيحون بوجوههم الكالحة، البائسة لتجنب الحديث مع الآخرين؛ يستخرجون علباً بلاستيكية ومعدنية ويضعونها في أكياس كبيرة، قبل الذهاب لبيعها في محلات مخصصة لشراء الخردوات.
“تداعيات الحرب في اليمن طالت المدنيين، ولم تستثن أوضاعهم المعيشية”
“أعداد الجياع في تصاعد، وآلاف الأسر تواجه الجوع، في ظل توزيع غير عادل للمساعدات الإغاثية”
بملابس رثة تعكس حالة البؤس وتضاؤل خيارات مواجهة الجوع لدى الكثير من اليمنيين، يعمل الطفل صقر الريمي (11 عاماً) في نبش مكبات النفايات بالقرب من سوق السنينة. يلتقط العلب البلاستيكية الفارغة ويتنقل من حي إلى آخر، حاملاً كيساً كبير الحجم يفوق قدرات جسده النحيل.
لكن الظروف القاسية لأسرته أجبرته على العمل ثماني ساعات يومياً، من أجل توفير لقمة العيش لأشقائه الصغار. لقد أصبح أحد محاربي الجوع ولم يبلغ سن المراهقة بعد.
صقر الذي تفوق معاناته سنوات عمره، هو أكبر أشقائه السبعة. ومنذ فقد والده عمله في إحدى شركات الإنشاءات في العاصمة صنعاء، أصبح هو العائل الوحيد لإخوانه. كان والده يتقاضى راتباً بمقدار 70 ألف ريال، أي ما يعادل (325$) قبل العام 2015. لكن الأسرة المكونة من تسعة أفراد صارت الآن تعتمد على ما يجنيه صقر من بيع علب البلاستيك الفارغة، وهو مبلغ لا يتعدى 1000 ريال في اليوم، أي أقل من دولارين.
صقر ليس الطفل الوحيد الذي أجبرته الأوضاع المتدهورة لأسرته على امتهان نبش النفايات. هذا المشهد أصبح مألوفاً في أحياء وشوارع مدينة صنعاء منذ قرابة عام، ما يعكس حالة التدهور المعيشي المتسارعة لآلاف العائلات؛ أطفال في عمر الزهور، ونساء طاعنات في السن أجبرهن الجوع على الخروج من منازلهن بحثاً عن أية مخلفات قابلة للبيع، ولو بثمن زهيد يلبي أدنى متطلبات الحياة اليومية. يعيشون في صراع من أجل البقاء حتى الرمق الأخير، وهناك من يدركه الموت قبل أن يؤمّن وجبة الغذاء، كما حدث للسيدة فاطمة العكثري (75 عاماً). كانت فاطمة تعيش في حارة الدقيق بمنطقة مذبح شمالي غرب العاصمة صنعاء. في الثامن من يوليو/ حزيران 2019؛ أدركها الموت قبل أن تبيع علب البلاستيك الفارغة التي اعتادت جمعها لتوفير ثمن علبة حليب هي كل وجبتها المسائية.
يعيش جامعو النفايات في شوارع صنعاء قصص كفاح يومية مع الجوع. وإلى ذلك، يواجهون الكثير من المخاطر. فبالاضافة للأمراض التي يمكن أن يصابوا بها جراء نبش أكوام النفايات التي تتضمن بينها مخلفات طبية خطيرة، هناك الكلاب الضالة التي باتت تستوطن مكبات النفايات بأعداد مخيفة. وعلاوة على ذلك، يتعرضون للاستغلال من قبل محلات شراء الخردوات، التي تقدم عروضاً أقل من الثمن المستحق. ذلك أن السعر العادل للكيلو البلاستيك القابل لإعادة التدوير يتراوح ما بين 100-120 ريالاً، فيما لا تقدم محلات الخردوات سوى 50-90 ريالاً للكيلو الواحد.[/vc_column_text][vc_column_text]خلافاً لما كان عليه الوضع قبل العام 2015، انتشرت محلات بيع وشراء الخردوات في معظم شوارع وأحياء مدينة صنعاء، وهو انتشار يقابله زيادة معدلات الإصابة بداء الكلَب. سعيد التهامي الذي يمتلك محلاً للخردوات منذ ثماني سنوات، في سوق مذبح، يصف تزايد العاملين في هذه المهنة بـ”الكارثة الخفية”. فالكثير ممن يشتري منهم المخلفات “غير مألوفين” كما يقول، ما يعني زيادة المنخرطين ودخول أشخاص جدد إلى المهنة؛ بسبب الجوع.
عادة ما يقابل امتهان العمل في جمع الخردوات بازدراء مجتمعي، خصوصاً أن معظم سكان العاصمة ينحدرون من أصول قبلية. وبسبب تفاقم سوء الأوضاع المعيشية، يجبر الكثير من الأسر الجائعة على ملازمة منازلهم طوال النهار. وحين يحل الليل يتسلل أفرادها تحت جنح الظلام؛ غالبا بين الساعة الـ12 منتصف الليل إلى الخامسة فجراً، للبحث عن بقايا حياة في براميل ومكبات النفايات. إنها الساعة الأخيرة لقرع جرس المجاعة. فلأول مرة يشاهد اليمنيون تقارير دولية موثقة عن مواطنين يأكلون أوراق الأشجار، بعد أن عجزوا عن توفير الغذاء الكافي والدواء.
في ظل هذا الوضع، أفاد صندوق الأمم المتحدة للسكان، في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2018، بأن 5.6 ملايين يمني يعيشون ظروفاً تشبه المجاعة، جراء ارتفاع الأسعار، وانعدام بيئة الأعمال، وتراجع معدلات الدخل.
وقالت منظمة “أوكسفام” الإنسانية في بيان لها في يوليو/ حزيران 2019، إن كثيراً من اليمنيين “يلجؤون إلى تدابير بائسة للنجاة من الجوع”.
وفي السياق نفسه، جددت الأمم المتحدة، التحذير من فشل جهودها في تفادي حدوث مجاعة في اليمن. وجاء في بيان لبرنامج الأغذية التابع لها إن “الملايين في اليمن يواجهون الآن أسوأ أزمة جوع في العالم بحيث لا يعرف قرابة الـ18 مليون يمني في جميع أنحاء البلاد، كيف يتحصلون يومياً على وجبتهم القادمة، ويعتبر أكثر من 8 ملايين منهم على حافة المجاعة”.
“أصبح صقر هو العائل الوحيد لإخوانه، منذ أن فقد والده عمله”
“كثير من الأسر تلازم منازلها طوال النهار ، وحين يحل الليل يتسلل بعض افرادها؛ البحث عن بقايا حياة في مكبات القمامة”