كان الصحفي الشاب محمد الصلاحي، يعمل في مركز إعلامي قام بتأسيسه مع زميله بلال العريفي، كانوا يغطون حفلات التخرج ويوثقون أعمال المنظمات الإغاثية في محافظة الحديدة غربي اليمن. في تلك الفترة، كان الصلاحي على وشك التخرج من كلية الإعلام، غير أن جماعة الحوثي ـ وتسمى أنصار الله ـ اختطفته وزميله إلى جهة مجهولة. لم يكن يعرف أنه لن يغطي حفلة تخرجه كما غطى حفلات الآخرين، لن يتخرج من الكلية أصلاً، إذ غيبه الحوثيون بين الزنازين والمعتقلات لخمس سنوات، تنقل خلالها بين 10 معتقلات، وتعرض في أوقات متفرقة وخلال الاستجواب لمختلف صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، وتم حرمانه من المحاكمة العادلة، وبعد خمس سنوات تم إطلاق سراحه بقرار من المحكمة نص على براءته من التهم الموجهة له لعدم كفاءة الأدلة.
عاش محمد الصلاحي حياة قاسية امتدت من تاريخ اختطافه في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2018، إلى يوم إطلاق سراحه في يوليو/تموز 2023، وتحمل تفاصيل الصحفي الثلاثيني، جزءً مما يتعرض له العاملون في حقل الصحافة اليمنية، وتحديداً أولئك الذين يعيشون في مناطق سيطرة جماعة الحوثي الذين فرضوا سلطتهم على أجزاء من الجمهورية اليمنية إثر اقتحامهم للعاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول 2014.
يتذكر الصلاحي، في حديثه لـ “الإعلام الحر”، تفاصيل ما تعرض له: داهم مسلحون يرتدون الزي المدني المركز الإعلامي الذي يعمل فيه وزميله في محافظة الحديدة، سرعان ما تبين أن المسلحين حوثيون عمدوا إلى تفتيش الحواسيب الشخصية والهواتف ومصادرة الأجهزة، بما في ذلك أجهزة الهواتف للأشخاص الذين كانوا حاضرين في المركز يومذاك. عقب ذلك عصبوا على أعينهم واقتادوهم إلى جهة مجهولة.
سألهم الصلاحي في البداية: أين نحن؟ أجابه أحدهم: أنت في الأمن السياسي..
كان المكان شقة يطلقون عليها اسم: المدافن، إلى جانبها مدرسة خاصة من المباني التي يستخدمها الحوثيون كمقار للاعتقالات، بدأوا بالتحقيق مع بلال العريفي ثم شرعوا بالتحقيق مع الصلاحي وتعذيبه من الساعة التاسعة مساءً إلى الثانية فجراً، استجوبوه عن أصدقائه، اتضح له أنهم كانوا يريدون معلومات عن بعض زملائه، كان الصلاحي يجيب على الأسئلة التي يعرف إجابتها، والتي لا يعرف إجابتها يتعرض بسببها للتعذيب:
«في مساء اليوم الثاني عدت للتحقيق مجددًا، مع ربطي إلى الخلف وتغطية عيني، واستجوابي حول معرفة أماكن تواجد مجموعة من الزملاء، منهم الصحفيان: رشا الحرازي وزوجها محمود العتمي بحكم أنه كان لديهم مخبزًا خيريًا، قال الحوثيون أن المخبز يمول عمليات إرهابية تقلق السكينة العامة والسكان، كانوا يريدون مني معرفة سكنهم وأين يعيشون وعن إخوانهم وأقاربهم وهل يعملون مع التحالف العربي وطبيعة عملهم، وهل هم مخبرون وهل أنا معهم ؟ وعند إجابتي بعدم معرفتي يقومون بضربي وصفعي وتعليقي مع السب والشتم حتى صباح اليوم التالي».
بعد 35 يومًا ومع اقتراب المعارك بين قوات الحكومة المعترف بها دولياً والمدعومة من التحالف العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وبين مسلحي جماعة الحوثي، من محافظة الحديدة، نُقل محمد الصلاحي مع عشرة أشخاص إلى صنعاء، كانت أيديهم مقيدة وأعينهم مغطاة، لم يحصلوا على قطرة ماء طوال الطريق التي استمرت لنحو 12 ساعة.
كان سجن المحكمة في منطقة حدة بصنعاء، أول سجن سيصل إليه الصلاحي في العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون، مكث في سجن المحكمة يوماً واحداً قبل نقله إلى سجن الأمن السياسي وتحديداً إلى زنزانة تسمى «جناح شمالي غربي رقم خمسة». مساحة الزنزانة لا تزيد عن مترين ونصف المتر، وقد بقي فيها الصلاحي مع أربعة أشخاص لأربعة أيام قبل نقله إلى زنزانة انفرادية مظلمة، كان المحققون يأتون إليه بين الفينة والأخرى لاستجوابه وتعذيبه وعرض صورة لأحد الصحفيين لمعرفة معلومات عنه.
بعد عشرين يومًا في الزنزانة الانفرادية، نقل الحوثيون الصلاحي إلى سجن شملان القديم: «تعرفت هناك على خمسة عشر معتقلًا مخفيًا يتحدث كل شخص إلى الآخر عن عدم معرفة أسرته عن مكانه وما إذا كان حيًا أو ميتًا، بعد أشهر سمح القائمون على السجن لبعض المخفيين التواصل مع أسرهم، لكنهم لم يسمحوا لي، قالوا لي: مازالت عليك علامة حمراء. بعد أيام سألني أحد القائمين على السجن:
ـ كم لك مسجون؟
كان ردي: ستة أشهر.
ـ هل تتواصل مع أسرتك؟
لا أحد يعلم أنني هنا.
ـ سوف أسمح لك بالتواصل مع أسرتك غدًا، لكن لا تخبر أحدا بذلك.
وهكذا سمح لي باستخدام هاتفه مقابل أن يحصل على مبلغ من أسرتي، وبالفعل حصل مقابل تلك المكالمة التي أخبرت فيها ابن عمي أني بخير وبمكان آمن، 30 ألف ريال».
مرت سبعة أشهر في سجن شملان القديم قبل إعادة الصلاحي إلى سجن الأمن السياسي في حدة وإلى زنزانة جديدة مع شخصين آخرين من أبناء محافظة الحديدة، ظل في هذه الزنزانة نحو 20 يومًا، خرج بعدها إلى السجن الجماعي قبل نقله إلى قسم الضغاطة.
والضغاطة هي زنزانة صغيرة تستخدم للتعذيب النفسي والبدني للشخص المحتجز: «أدخلوني إلى الضغاطة مع 24 شخصًا آخر، لم تسعنا تلك الغرفة الصغيرة عالية الحرارة ومكتومة الهواء التي قسمناها بالسنتيمتر لكي نستطيع الجلوس والنوم بالتناوب، مكثت فيها لمدة عام كامل، سمعنا عن تفشي فيروس كورونا فتم نقلنا إلى ضغاطة أخرى كبيرة مكتظة بالمعتقلين، كانت مميزة عن سابقتها: ثلاثة أشخاص ينامون على فراش واحد، وآخرهم ينام في باب دورة مياه الصرف الصحي المكشوفة التي نستخدمها لمياه الشرب، ومع ذلك كانت بالنسبة لنا أفضل من الضغاطة السابقة».
تم عرض الصلاحي على النيابة العامة بعد مرور أكثر من سنتين من اعتقاله، ووجهت له 25 تهمة.
مرت سنتين على احتجاز حرية الصحفي محمد الصلاحي دون محاكمة، وفي التحقيقات المتكررة كان الحوثيون يبحثون عن معلومات حول صحفيين. عقب ذلك، جرى عرضه على النيابة التي يسيطر عليها الحوثيون، تفاجأ الصلاحي حين وجهت له النيابة نحو 25 تهمة، منها التخابر مع دول أجنبية ونقل معلومات، رفض الصلاحي كل ذلك، فحولوه إلى سجن الأمن القومي.
يقع سجن الأمن القومي في منطقة صرف بني حشيش، وقد نُقل إليه الصلاحي مع مجموعة من أبناء محافظة الحديدة وريمة، موقع السجن تحديداً في نطاق منطقة عسكرية مكشوفة يستخدمها الحوثيون، وقد تم قصف كل المباني المجاورة للسجن، ومع ذلك كان الحوثيون يقومون بمناورات عسكرية في القرب منه لكي يقصفه طيران التحالف العربي. كانوا عمداً يجعلون المعتقلين عرضة للقصف، يريدون ذلك بأية وسيلة.
في هذا السجن، سُمح لأقارب محمد الصلاحي بزيارة ابنهم: «وكنت عند كل زيارة يتم تقييدي وتغطية عيني». كان ذلك نوع من أنواع التعذيب النفسي والجسدي، يضاف إلى ما تعرض له الصلاحي طوال فترة احتجازه: الضرب بالسياط، التقييد، التعليق على الحديد، رش المياه الباردة، والسب والشتم، هكذا في مرة، حتى عندما يمرض أحد المعتقلين: «لا نستطيع اخبارهم لأننا سوف نتعرض للتعذيب، ذات مرة جاء إلينا سجين جديد فقمت بإطعامه والاهتمام به وعند معرفة القائمين على السجن بذلك تعرضت لضرب مبرح، كنت أتبول دمًا».
وفي إحدى المرات، كما يقول الصلاحي: «لطمني أحد أفراد السجن على الأذنين حتى تورمت، وخرج منها القيح ولم يعطوني دواء، ظننت أني مريض بالسرطان، أحد السجناء اشترى لي مضاد حيوي، فتحسنت قليلًا، مازال لدى ضعف في السمع بسبب تأثير تلك الصفعة».
ومع ذلك، لم يؤثر طنين الصفعة ولا آثارها الباقية على مسار المحاكمة الهزلية للصحفي الشاب، فبعد ثلاث سنوات من الاعتقال، عرض الحوثيون، الصلاحي ولأول مرة على قاضيين دون محام وفي منتصف الليل. القاضيان معروف ولاؤهما لجماعة الحوثي، وهما أمين زبارة وأحمد الشامي، كانا يلوكان القات وإلى جوارهم الأسلحة، طلب الصلاحي منهما السماح له بالتواصل مع محاميه، لم يسمحوا له، عرضوا عليه إحضار محام آخر، فرفض والتزم الصمت.
وفي الجلسة الثانية طلب القاضيان من الصحفي الاعتراف بالتهم الموجهة له والتي تصل إلى نحو 25 تهمة، منها التخابر مع دول أجنبية ونقل معلومات، طلبوا منه الاعتراف مقابل العفو، قال له أحدهم: السيد (يقصدان عبدالملك الحوثي زعيم الجماعة) قد عفا عن جواس ـ القيادي العسكري الذي قتل مؤسس جماعة الحوثي حسب ما تقوله الروايات.. حينها قال لهم الصلاحي: كيف أعترف عن شيء لم أفعله؟ ألتمس العدالة منكم لا تظلمونا كما فعلت النيابة والمحققين الذين أخذوا بصماتي على كلام لم أقله..
وفي الجلسة الثالثة طلب القضاة من النيابة إثبات التهم على الصلاحي بالأدلة والقرائن مالم فسوف يتم الإفراج عنه..
انتظر الصلاحي، براءته في الجلسة الرابعة بصنعاء، ولكنهم نقلوه إلى الحديدة، بالفعل قررت المحكمة إطلاق سراحه، ومع ذلك لم يتم الإفراج عنه إذ بقي في السجن لسنتين إضافيتين بعد الحكم: «كنت كلما سألتهم عن سبب بقائي في السجن في الحديدة، يقولون لي سوف نعيدك إلى صنعاء. بعد أسئلتي المتكررة جاء إليَّ ضابط من الأمن السياسي وقال لي: أنتم ضمن صفة تبادل الأسرى. أراني صورة لمذكرة فيه أسماء كل الذين تم نقلهم من صنعاء معي، فقلت له: نحن لا نتبع أي طرف وأهالينا يخبروننا أننا لسنا ضمن صفقة التبادل».
بعد خمس سنوات من الاعتقال، وفي نهاية يوليو/تموز 2023، أجبروه على التوقيع على تعهد فحواه: أن يبقى على تواصل مع الأمن السياسي في محافظة الحديدة وأن يخبر العمليات بتحركاته، وافق الصلاحي من أجل أن يخرج من معتقلاتهم، ووقع على طلبهم ليطلقوا سراحه في رابع أيام عيد الأضحى.
بعد أيام تفاجأ بتواصلهم معه يطلبون حضوره إلى مقر الأمن السياسي في الحديدة، للالتزام على ضمان حضوري، يقول الصلاحي: قلت لهم أريد مذكرة للجامعة لاستكمال دراستي فوعدوني بذلك، غير أني تواصلت مع المعتقلين الذي خرجوا معي لأتأكد من تواصل الحوثيين معهم لأجل الضمانة الحضورية، حين تأكدت أنهم لم يتواصلوا معهم، رتبت أموري للوصول إلى مدينة تعز حتى لا يسجنني الحوثيون من جديد.