الإعلام اليمني: جــــــــــانـــــي أم ضحيــة

سياق التقرير

]نناقش مع مجموعة من أهم خبراء الإعلام، من صحفيين وكتاب وأكاديميين وإعلاميين، عددًا من التحديات والقضايا التي طالت الصحفيين اليمنيين المهنيين والمحترفين خلال سنوات الحرب. بالتأكيد، تتطلب هذه القضايا والتحديات الكثير من المناقشات والتشريح في مختلف الأوساط المهتمة بالمجال الإعلامي، وهذا أكثر من مجرد محاولتنا المتواضعة، فمعظم ما نزعمه ونسعى إليه في هذا السياق هو أننا نحاول فقط لفت الانتباه إلى قضية الإعلام اليمني، الأمر الذي يستدعي وعيًا أكبر لدى المهتمين، سواء كانوا من خريجي كليات الإعلام أو محترفين، لإخراج الواقع الإعلامي من وضعه البائس.

طاهر: الصحفيون المستقلون إما متوارون أو مختطفون أو محكومون بالإعدام

“هناك إعلامٌ جانٍ، وإعلامٌ ضحيَّة، وإعلامٌ جان وضحية في نفس الوقت”. هكذا قسّم المفكر اليمني وأول نقيب للصحافيين اليمنيين الأستاذ عبد الباري طاهر، الإعلام اليمني، معتبراً أن الإعلام الموالي للميليشيات والحرب هو الإعلام المسيطر، واصفاً إياه بـ “الجاني والعدواني”. في المقابل يرى طاهر أن الإعلام الذي “مصادر حريته، وهو الإعلام المستقل هو الضحية بامتياز”.

وشدد طاهر على الأثر السلبي للإعلام اليمني خلال الحرب، لأن “القنوات والصحف الورقية والرقمية التابعة للأطراف المتحاربة هي الممولة والمحروسة”، معتبرا أنها أصبحت “تقريبا الوحيدة المتاحة لمخاطبة الرأي العام”. مشيراً إلى أنها تمتلك إمكانيات وطاقات كبيرة ومتفردة في الساحة و”محمية وممولة، والأقوى والسلبية بالطبع”، معتبرة أن الجانب الإيجابي للإعلام هو: “مكبوت ومجرم ومصادر، ومع ذلك فهو يلعب دوراً إيجابياً رغم المصادرة والقمع “.

ويرى طاهر أن “القنوات الفضائية (وكلها في أيدي أطراف النزاع) تخوض معارك كلامية لحظية تثير وتؤجج الصراع القبلي والطائفي والجهوي والمناطقي والسلالي، وتحرض على الفتنة والنزاعات وينقبون عن كل ما يعمق الصراع ويمزق النسيج المجتمعي ويدمر الوحدة الوطنية”.

معتبرا أن الصحافة المستقلة أصبحت “محظورة أو خائفة”، بينما الصحفيون المستقلون “إما متوارون، أو هاربون أو مختطفون أو معتقلون ومحكومون بالإعدام”، ويضيف: “كلهم محرومون من مصادر مهنتهم أو مقطوعة رواتبهم، ويعيشون في خوف وجوع وفقدان للحرية”.

الحرب” أبرز التحديات التي تواجه الإعلام اليمني على كثرتها بنظر طاهر، الذي سرد عدداً من التحديات الأخرى “وهي: القمع الفاشي السائد والخطف والاغتيالات والقتل والتجويع وإهدار الكرامة، اتهامات بالتوظيف والخيانة نيابة عن جهة أو تلك”، معتبراً أن هذه العوامل كلها تهديدات لوسائل الإعلام وتضر بحيادته. من أجل الحرية والحقيقة، يرى طاهر أنه لا علاج لـ “هذه الكارثة إلا وقف الحرب”، داعياً إلى “التخلي عن استخدام القوة، وفتح أبواب الحوار والمصالحة، وبناء الدولة الفيدرالية الديمقراطية”.

ويعد طاهر سيطرة أمراء الحرب على وسائل الإعلام توشك أن تكون كلية وشاملة، معتبراً أن امتلاك أمراء الحرب للمال وأدوات القمع تمكنهم من مصادرة الحريات العامة والديمقراطية وكبت حرية الرأي و”ترويع ومعاقبة وتجويع المختلف والمستقل.” ويرى طاهر أن دور النقابات والاتحادات وعلى رأسها نقابتي الصحافيين والمحامين بات مغيباً، وأن هذه الكيانات باتت متوارية ومقموعة، باستثناء أدوارٍ محدودة لبعض المنظمات والنشطاء.

ويعتبر طاهر الرقابة هي الوظيفة الرئيسية للصحافة، حيث إنها “الضمير الجمعي الذي يراقب مدى الالتزام بالنظام والقانون، واحترام الحريات والحقوق، وفضح الظلم والفساد والاستبداد والحد من استبداد السلطات، ونزاهة نهجها، والتزامها بقيم الحرية والعدالة “. وقال: إن الصحافة لا تدافع عن حريتها فحسب، فوظيفتها الأساسية حماية جميع الحريات.

ويعتبر طاهر أن تقويم العمل الإعلامي في اليمن يحتاج مناخاً ملائماً وهامشاً واسعاً للحريات واحتراماً لحقوق الإنسان ووجود وسائل إعلام متحررة ديمقراطية ومستقلة، مشدداً على أن الأهم يتمثل في “حرية الحصول على المعلومة” والذي يعد برأيه الأساس لأي تقويم، ورغم صدور قانون يكفل الحق في الحصول على المعلومة إلا أن الحرب قد أضاعت كل شيء.

طاهر اختتم حديثه بتوجيه نداء لجميع اليمنيين إلى التصالح والتعايش وقبولهم ببعضهم البعض، مشيراً إلى أنه ليس أمام الصحافيين والإعلاميين” إلا المطالبة أولاً وقبل كل شيء بوقف الحرب وإحلال السلام في ربوع بلدهم اليمن.”.

العديني: الإعلام ساهم بتغذية الصراع و “تمويل الحرب“ بصورة غير مباشرة

يرى الكاتب والصحفي المخضرم حسن العديني، أن الإعلام اليمني في ظل الحرب كان “الجاني والضحية في نفس الوقت”، معتبراً أن “استمرار الحرب كل هذا الوقت” إجابةً “كافية” عن السؤال: هل أثر الإعلام ايجاباً ام سلباً في الحرب؟
“إثارة الضغائن وتهييج الناس ودفعهم إلى الالتحاق بجبهات القتال” يتحدث العديني واصفاً وظيفة الإعلام الذي استخدمته الأطراف المتناحرة “إلى مدى بعيد”، لتغذية الصراع، بل يتهمه بـــ “تمويل الحرب” في بعض الأحيان، ولكن، كيف يساهم الإعلام في تمويل الحرب؟!، يرى العديني أن “السكوت على نهب المرتبات وانهيار سعر صرف العمل وكل اشكال المعاناة المادية (للشعب)”، يمثل مساهمةً في “تمويل غير مباشر للحرب”
بالنسبة للعديني فإن استقلال الصحافة “نسبي مع اختلاف الدرجة”، معتبراً أن الصحافة المستقلة “لم يكن لها وجود حقيقي”، و أن ما كان يوصف بالصحافة المستقلة في اليمن “لم تستطع الاستمرار في اجواء الحرب” كما أن الصحافة الإلكترونية ازاحت “الصحافة الورقية”.
والطبيعي برأي العديني أن “الصحافة لا يجب ان تخضع لغير رقابة الضمير”، لكنها في “العالم المتخلف تختنق تحت طاولة الرقابة الحكومية” أما في العالم المتقدم “ترزح تحت هيمنة سلطة رأس المال”، ولا يرى العديني بأساً في غياب من يوصفون بالصحفيين المهنيين عن الساحة الإعلامية، إذ أن “جيلاً يتخلق ويتدفق إلى هذا الحقل، يضم عناصر كثيرة تتمتع بالموهبة والكفاءة والاحترافية بأكثر مما كان لدى أجيال سابقة”.
أهم التحديات التي تواجه الإعلام من وجهة نظر حسن العديني يتمثل في “وجود الدولة من عدمها”، وبرأيه ففي هذا “الظرف الخطير والمائع قد يقبل اليمنيون بدولة مستبدة مادامت موحدة”، ويستطرد “بعد ذلك سوف يأخذ التطور مجراه بفعل قوة حركة التاريخ إلى أن تنشأ مؤسسات ديمقراطية متينة وراسخة القواعد ومؤسسات صحفية كبيرة”، ويعتقد العديني أن الأمر “مرهون بتطور المجتمع في الميادين كافة”، فالصحافة الحرة “لا وجود لها في مجتمع مريض وسلطة فاسدة كذلك يستحيل أن تعيش الصحافة وتزدهر في بلد اللادولة”.
وبرغم “السيطرة الكاملة لأمراء الحرب على وسائل الإعلام”، ينفي العديني، أي تدخلات من النقابات والهيئات الإعلامية لحماية الصحفيين ومساعدتهم في كسب العيش مع الحفاظ على استقلاليتهم، معتبراً أن الصحفيين في اليمن باتوا موزعين “بين متبطلين، وعاملين في الوسائل الإعلامية الخاضعة لسيطرة امراء الحرب، قليلٌ منهم بالرغبة والقناعة وكثيرون تحت ضغط الحاجة”.
ولا يقر العديني بأي رقابة على وسائل الإعلام “غير رقابة الضمير”، مشددًا ضرورة وجود “حركة تنوير واسعة وهائلة”، لكن من يقوم بها ؟، يجيب العديني “لا ادري . خصوصًا وأن الجهل يقتحم الجامعات ومراكز البحث”.
وتستمر حيرة العديني لدى سؤاله عن كيفية تقويم العمل الإعلامي، إذ يجيب علينا بعبارة مقتضبة “أنا في حيرة”، ويبدو أن هذه (الحيرة) لن تتوقف؛ فعند سؤاله عن البدائل المتاحة للصحفيين لأداء دورهم في كشف الحقائق دون أن يفقدوا أرزاقهم، يقترح العديني أن “يتولى الصحفيون أنفسهم إنشاء شركات إعلامية مساهمة”، ثم يعود ليتساءل “هل هناك بينهم من يستطيع من الناحية المالية؟ واذا كان .فهل يتعامل بضمير المهنة ام بعقلية التاجر الجشع”، يقفل العديني الباب أمام اسئلته وأمامنا بعبارة الإغلاق: “مازلت محتاراً”!.

السقاف: الصحافة المستقلة ضرب من الخيال وأمراء الحرب يستميلون «ضعاف النفوس» و «ضعاف الحال»

“جاني من خلال بثه ونشره معلومات مضلله وأحياناً كاذبة وهو يعلم أنها كذلك” و”مجني عليه لحجب المعلومات وعدم منحه حق الحصول عليه” هكذا يستهل الكاتب والصحفي “علي السقاف” أحد أبرز الصحفيين اليمنيين ورئيس تحرير صحفية الوحدوي سابقاً حديثه عن واقع الإعلام اليمني في ظل الحرب.
ويرى السقاف أن “حق الحصول على المعلومة أقرته معظم الدول لكل الإعلاميين حتى لا يقعوا ضحية التضليل ونشر معلومات غير دقيقة” مشيراً إلى أن تأثير الإعلام في الحرب كان “إيجابياً في بعض الأحيان وسلبي في حالات أخرى” معتبراً أن تفاوت تأثير الإعلام إيجاباً وسلباً ليس في زمن الحرب فقط، بل في مختلف الأوقات وكل مناحي الحياة وأن التقييم يتغير بحسب الزمان والمكان.
يتهم السقاف الأحزاب السياسية ببث ثقافة الكراهية في المجتمع، مشيراً إلى أن الإعلام كان له دور بارز في تغذية الصراع الأهلي، ويرى السقاف أن الآلات الإعلامية للأحزاب مارست التحريض “بشكل سافر لشيطنة خصومها” معتبراً أن بعض هذه المنابر الحزبية “ دعت بوضوح إلى ضرورة اجتثاث خصومها السياسيين من أحزاب وأشخاص، تحت دعاوى وافتراءات بعيدة عن الحقيقة” وأن تعز أنموذج حي على ذلك.
السقاف يرى أن “الحديث عن صحافة مستقلة ضربٌ من الخيال” في ظل “غياب الدولة وتسيد الفوضى” معتبراً أن الصحافة المستقلة “ اختفت” وأن ما بقي عبارة عن “صحافة مدجنة متفاهمة مع الأطراف المسيطرة على الأرض” مشيراً إلى أن عدداً من هذه الصحف الورقية “امنت نفسها من التحول إلى اصدار صحف الكترونية” من خلال “الحصول على دعم الممول” معتبراً أن “الصحافة المستقلة لم تكن موجودة من الأساس”.
وبنظر السقاف فإن أمام الإعلام اليمني جملة من التحديات منها ما هو على صعيد القوانين وضمان حرية التعبير وإطلاق التراخيص لكل وسائل الإعلام وضرورة سن قوانين تضبط العمل الإعلامي دون مساس بحرية التعبير، مشيراً إلى نوع آخر من التحديات التقنية والفنية والتي يمكن معالجتها “بتوفير الامكانيات المادية والتقنية ليتمكن الإعلامي اليمني من مواكبة التطور الهائل في مجال الإعلام وتقنيات المعلومات المرتبطة به”.
ويؤكد السقاف أن أمراء الحرب “يحتلون مساحة من المشهد مستغلين ظروف الإعلاميين المعيشية” حيث أنهم استطاعوا إستمالة عدد كبير من الإعلاميين “ من ضعاف الحال” و”ضعاف النفوس” مشيراً إلى أن الساحة الإعلامية اليمنية “تعج بأمثال هؤلاء في الداخل والخارج”.
وأشار السقاف إلى تغيب دور النقابات منذ عهد الرئيس السابق “صالح” وإلى اليوم، معتبراً أن الدور الرقابي على الأداء الإعلامي يبدأ من الصحفي نفسه، حيث “تحتم أخلاقيات المهنية على الصحفي التحلي بالمصداقية والدقة فيما ينشر” ومن ثم يأتي دور “الرقابة المجتمعية” من خلال منظمات المجتمع المدني والجهات المعنية برصد ومتابعة ما ينشر في وسائل الإعلام، والقيام بدورها الرقابي في مكافحة “التضليل والتحريض وتنبيه المجتمع إلى خطورة ما تقوم به بعض الوسائل الإعلامية المظللة”.
ويرى السقاف أن تقويم العمل الإعلامي في ظل الحرب لا يختلف كثيراً عنه في فترات السلم، وذلك من خلال وضع المحتوى الإعلامي “تحت المجهر وتحليل الخطاب الإعلامي المتداول تحليلا علمياً منهجياً” وذلك بواسطة “باحثين ومتخصصين في المجال الإعلامي بالإضافة إلى منظمات المجتمع المدني وبالأخص نقابة الصحفيين” مبدياً أسفه إلى كون النقابة لم “تقوم بدورها على الوجه المطلوب”.
أما البدائل المتاحة لضمان استقلالية الصحفي ومهنيته فيرى السقاف أنها تتمثل في “عدم الاعتماد الكلي في العمل لصالح وسيلة إعلامية معينة أو جهة محددة” وإنما يجدر بالصحفي من وجهة نظر السقاف أن يقوم بالبحث عن أكثر من عمل “يؤمن له لقمة عيشه ولو اضطر لممارسة عمل إضافي ولو بعيداً عن تخصصه”.

قاسم: لم أصادف صحفياً توفرت له فرص لضمان استقلاليته

“ضحية السياسي” هكذا يصف الصحفي والكاتب الساخر فكري قاسم وضع الإعلام اليمني خلال الحرب، معتبراً أن تأثير الإعلام بات” سلبياً جدا بالنسبة للعامة وايجابياً بالنسبة للإعلام الحربي”.
ويرى فكري قاسم وهو كاتب مسرحي وسياسي ساخر وشهير أن “الحرب تبدأ من كلمة كما يقال”، مشيراً بذلك إلى الخطورة البالغة للإعلام في تغذية الصراع الأهلي.
قاسم الذي كان يملك ويرأس صحيفة حديث المدينة المستقلة والتي تعرضت للإغلاق نتيجةً للحرب، يرى أن “الصحافة المستقلة لا تنشأ ولا تتواجد ولا تتطور إلا في ظروف السلم”، معتبراً أن الصحفيين المهنيين” أكثر من تعرضوا للمضايقات والتهميش من قبل كل الأطراف.
“خطاب الكراهية والتحريض، والدخلاء على المهنة” من أبرز التحديات التي تواجه الإعلام اليمني من وجهة نظره قاسم، الذي أعتبر أن “تسرب كثيرين ممن لا علاقة لهم بالصحافة للعمل في وسائل الإعلام” من أكبر التحديات “المعيقة” للعمل الصحفي المهني، مبدياً خيبة أمله لعدم وجود معالجة مأمولة لهذه المشاكل في ظل استمرار الحرب.
قاسم يرى أن “كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية في يد أمراء الحرب وسيطرتهم عليها كاملة”، ولدى سؤاله عن دور الهيئات الإعلامية المحلية والدولية في توفير الحماية والفرص للصحفيين المستقلين لضمان استقلاليتهم واستمرار دورهم المهني، أجاب: “سألت نفسي هذا السؤال من قبل ولم أجد إجابة لأني لم اصادف صحفي مستقل توفرت له فرص لضمان استقلاليته”.
وإذا كانت الفرص غير متاحة للصحافة المستقلة فكيف يمكن مراقبة وسائل الإعلام للحد من التحريض والتشهير وخطاب الكراهية وكشف الأكاذيب والتضليل الممنهج الذي يملأ الفضاء الإعلامي، يرى قاسم أن : مشكلة مهنة الإعلام أنها مفتوحة ومتاحة لكل من يستطيع القراءة والكتابة ويضيف ساخراً “حتى السوق له عاقل ممكن يضبطه أما الصحافة والإعلام الضابط فيها هو أخلاق الصحفي نفسه.
ويرى قاسم أن تقويم العمل الإعلامي في ظل الحرب يتم من خلال “إقامة ورش عمل وندوات فكرية ودورات تدريبية ترشد الصحفي إلى صحافة المستقبل وإلى تبني خطاب يحث جميع الأطراف إلى السلام”.
واختتم قاسم حديثه بالتأكيد على أن “الصحافة الإنسانية” تمثل بديلاً للصحفيين المهنيين لإداء دورهم في كشف الحقائق دون ان يفقدوا أرزاقهم، وذلك من خلال تحرير قصص اخبارية إنسانية، تغوص في أعماق النفس البشرية وتأثيرات الحرب عليها.

الأغبري:إعلامنا انعكاس لواقع مجتمعي قامع للحريات ومنغلق

اعتبرت الدكتورة سامية الأغبري، رئيس قسم الصحافة بكلية الإعلام، جامعة صنعاء، أن الإعلام اليمني انعكاس للواقع المجتمعي القامع للحريات سياسياً والمتدهور اقتصادياً والمنغلق اجتماعياً وثقافيا، فلا يمكن للإعلام أن ينهض بدوره “التنويري والتوعوي في بيئة مشبعة بالكراهية والعنف المادي والمعنوي”.
ولتأكيد رؤيتها ساقت الأغبري أمثلةً لبيئة الكراهية والعنف التي يعد الإعلام انعكاساً لها، فالمؤسسات الدينية “خطابها يدعم استخدام العنف والكراهية للآخر ومواجهته بقوة السلاح عبر منابر الجوامع”، والمؤسسات التعليمية “تؤسس لثقافة العنف والكراهية سواء من خلال مناهجها التعليمية أو طرق وأساليب التدريس” فيما الأخطر برأيها أن خطاب القادة السياسيين والعسكريين والأحزاب والمنظمات لا يخلو من نبرة العنف والكراهية للآخر.
وحتى على المستوى الشعبي ينعكس “خطاب الكراهية والعنف” على الإعلام بوسائله المختلفة والذي “أضحى مجرد ناقل لما يحدث في المجتمع “بحسب الأغبري التي ترى أن الإعلام “ضحية أكثر من كونه جاني” وإن كانت لا تعفيه من المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية تجاه المجتمع.
الأغبري ترى أن من البديهي أن يساهم الإعلام (إلى حد ما) في تأجيج الحرب والصراع ما يعني أن تأثيره سلبي إلى حد كبير في أحياناً كثيرة، يبالغ ويضخم الواقع كي يخدم أجندات معينة بحكم حالة الاستقطاب الحادة التي يعاني منها في ظل الحرب.
وتعارض الأغبري النظرة الأحادية للإعلام فهو “ليس واحداً بل إعلام متعدد الولاءات”، ومن الطبيعي أن يعكس مصالح ومطامع القوى المتصارعة التي يمثلها بشكل كبير، نافيةً أن تعبر هذه الولاءات المتناقضة عن “صراع أهلي، وهي التسمية التي ترفضها: ليس صراعاً أهلياً، بل صراع معقد متعدد الولاءات لقوى خارجية، ومصالح ضيقة لقوى داخلية ضحيته الشعب.
لا توجد صحافة مستقلة ولكن يمكن أن توجد صحافة وإعلام مسؤول، هكذا ترى الأغبري من وجهة نظر علمية وإعلامية، فالحياد من وجهة نظرها وهم، بيد أن الإعلام “يواجه معوقات عديدة تحد من قدرته على الاستمرار”، أهمها “معوقات سياسية وأمنية ومادية”، ومعوقات اخرى “مرتبطة بمستوى وعي الجمهور”.
انهيار الدولة، أكبر التحديات التي تواجه الإعلام من وجهة نظر الأغبري، فقد أسفر عن “تحدٍ سياسي وأمني” فضلاً عن التحدي الاقتصادي وهو من أهم تبعات ذلك الانهيار والذي أدى إلى “ضيق – إن لم نقل – ضعف شديد بهامش الحرية الإعلامية”.
وتقترح الأغبري بعض المعالجات من خلال “الحوار الوطني بين مختلف الأحزاب السياسية والجماعات المختلفة بعيداً عن التدخل الأجنبي”، ومنع فرض أجندة معينة على الإعلاميين”، فضلاً عن إقامة “دورات تخصصية للصحفيين وكيفية تعاملهم مع الأحداث”.
الأغبري أكدت أن “حجم سيطرة أمراء الحرب على الإعلام كبير جدًا”، فلا تكاد وسيلة إعلامية يمنية “تخلو من سيطرة تجار الحروب” ولم يعد بالإمكان “الثقة فيها والتعويل عليها كثيراً”.

مكارم: الإعلام اليمني «حبيس جغرافيته»

“ضحية المزاج السياسي”، يقول الدكتور عبد الحكيم مكارم، رئيس قسم الإعلام بجامعة تعز، في تقييمه لواقع الإعلام اليمني، الذي يراه “صورة للواقع الذي يعيش فيه، يعكس التقسيم في الهوية والغاية، ويسعى بجدية لإثبات مكانة الفاعل الاتصالي بأي شكل من الأشكال وبكل الوسائل”، معتبراً أن” مصلحة الربح والخسارة “هي من يملك إدارة وتوجيه وسائل الإعلام، خاصةً في العالم الثالث.
ويرى مكارم أن الإعلام اليمني “محبوس في جغرافيته” و”فكرة وانتماء مالكه”، مما يضعف تأثير الإعلام على المتلقي و”يفقد الثقة في القضايا أو الأفكار المطروحة”. والحقيقة “غائبة عن رسالتها أو مشوهة” ونتيجة لذلك “الإعلام اليمني غائب عن جمهوره”.
ولا يشك مكارم في أن الإعلام اليمني “كان له دور فاعل في تأجيج روح الحرب وحب سفك الدماء”، حيث استخدم الشائعات والأكاذيب كوسيلة لدفع المقاتلين إلى القتال، و”فوت دوره التنموي والتحديث في بناء الفرد والمجتمع والحفاظ على الهوية الوطنية “.
“لم يعد هناك ما يسمى بالصحافة المستقلة ولم تعد لها مكانة” يتحدث مكارم معتبراً أن الحقيقة غابت وعزف عنها كاتبوها ومحبوها وأصبحت غريبة في الوسط، مما اضطر الباحثين عن الحقيقة من صحافيين وكتاب إلى “مغادرة المشهد بحثاً عن لقمة عيش أو ملجأ لحياة كريمة”. معتبراً أن أكثر التحديات التي تواجه الإعلام اليمني تقييد حريته وتضييق هامشه السياسي والتضليل الإعلامي وتزييف الوعي السياسي.
ويرى مكارم أن الإعلام اليمني رهينة لدى الأطراف الفاعلة في الحرب، والذين هم “على دراية كافية بما يعيشه الإعلام المحلي من تخلف وزيف وتضليل” لكنه عاد واستثنى بعضاً من تلك الأطراف التي قال أنها “تقف حاجزاً ضد موجة من التضليل والمزاج السياسي”.
وبنظر الدكتور مكارم، فإن تجارب النقابات والمنظمات والأحزاب محدودة فيما يخص حماية الإعلام والدفاع عنه، مشيراً إلى أن الدولة حينما تضعف، يضعف معها الدور الرقابي على وسائل الإعلام، حيث “تتلاشى أخلاقيات المهنية شيئاً فشيئاً، حتى أصبحت وسيلة الإعلام والقائم بالاتصال اليوم معول هدم لكل ما هو قائم”. ويعتبر أن من الصعوبة تقويم العمل الإعلامي في ظل الحرب، لأن بوصلة أدائه منحرفة وهاجس السبق وإسباغ الحقيقة بألوان مختلفة حاضرٌ بيننا، لكنه يرى أن إنجاز “ميثاق شرف مهني” قد يلبي تطلعات الكثير. معتبراً أن المدونات الإلكترونية بديلاً مناسباً للصحافيين المهنيين والمستقلين لمخاطبة الرأي العام وتزويده بالحقائق.

القدسي: الصراع والاستقطابات دفعا العديد من الصحافيين للصمت أو الكتابة بعكس قناعاتهم

يرى الدكتور منصور القدسي، رئيس الدائرة الإعلامية بجامعة تعز أن الإعلام اليمني “الجاني والضحية في نفس الوقت” مشيراً إلى أن الإعلام الموالي لـ “أطراف الصراع” تقمص دور الجاني من خلال انخراطه في معركة إعلامية لا تقل ضراوة عن المعركة العسكرية، مشيراً إلى أن إعلام الحرب “حول جزءًا كبيرا من المجتمع لأداة ضاغطة نحو استمرار الحرب”، وأنه بات صعباً إقناع المجتمع بضرورة إيقاف الحرب حتى لو وصل الساسة إلى قناعة بأهمية إحلال السلام، إذ “سيعتبرون إنهاء الحرب خيانة عظمى” معتبراً أن إعلام الكراهية يتحمل أخلاقياً “مسؤولية إراقة المزيد من دماء اليمنيين”.
في السياق المقابل، يرى القدسي أن الإعلام المهني كان من أبرز ضحايا الحرب التي أدت لإغلاق عشرات القنوات والصحف والمواقع الإلكترونية وحرمت المواطنين من حق معرفة الحقيقة، يستطرد القدسي “تعرض العشرات من الصحافيين للقتل والاعتقال، إضافة لتشرد المئات من أعمالهم نتيجة لاستمرار المضايقات والانتهاكات بجميع أنواعها من قبل جميع الأطراف التي فشلت في شراء أقلام هؤلاء الصحافيين الذين يكافحون يومياً لنقل صوت المجتمع اليمني إلى العالم”.
“لا يختلف اثنان حول التأثير السلبي للإعلام اليمني في الحرب” يقول القدسي، مشيراً إلى “مدى القصور والتخبط في تغطية الإعلام اليمني للنزاع” و”تعاظم دوره السلبي في تأجيج حدة الصراع والحرب الأهلية” وبرأي القدسي فلم تعد طلقات البنادق سبباً وحيداً لإطالة أمد الحرب اليمنية، فكلمات الإعلام “تورطت في تأجيج العنف بعد تحوُّل المنابر الإعلامية إلى فضاءات سامة لنشر الكراهية والتخوين وإثارة النعرات.. وما بين الطلقات والكلمات انزلقت اليمن إلى نفق مجهول”.
“مزيداً من التحريض لتأجيج حدة العنف والعنف المضاد” هذا ما قدمته وسائل الإعلام اليمنية برأي القدسي، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، مشيراً إلى أن معظم المواد الإعلامية تحريضية بامتياز، وهي تسعى “عن قصد لنشر ثقافة الكراهية والعنف” معتبراً أن ذلك يتجسد في “منافذ الإعلام المقسمة تقسيماً حزبياً وجهوياً وطائفياً، والمستوى المتدني للمهنية الإعلامية التي تتمتع بها.. إضافة إلى مسألة ملكيتها وتمويلها” إضافةً إلى مضمون الخطاب الإعلامي الذي تقدمه عبر تقديم “المعلومات الخاطئة والمبتورة والمشوهة وتشكيل صورة نمطية عن الآخر”، فضلاً عن انعكاس الخطاب التحريضي في وسائل الإعلام على مواقع التواصل التي أصبحت “ساحة التراشق الأبرز بين أطراف الصراع اليمنية”
وعن معاناة الصحفيين في اليمن يقول القدسي “أصبح الصحفي المهني الحلقة الأشد ضعفاً، حيث أصبح هدفاً لكل الأطراف المتحاربة” ويضيف: “لقد خسر الكثير من الصحافيين أعمالهم وتحولوا إلى مهن أخرى في الغالب لا تتناسب مع قدراتهم المهنية” مشيراً إلى أن الصراع والاستقطابات السياسية في الحقل الصحفي، دفعت العديد من الصحافيين “إما للصمت وإما الكتابة بعكس قناعاتهم المهنية بهدف توفير مصدر دخل لإعالة أسرته” مشيراً إلى أن اليمن باتت في صدارة الدول الأكثر خطراً للعمل الصحفي مع ارتفاع عدد القتلى والمعتقلين والمخفيين قسراً في ظل سيطرة الأطراف المتحاربة التي باتت “تضيق ذرعاً بالكلمة وتخشى أصحاب الأقلام”.
ويعتقد القدسي أن التحدي الحقيقي أمام الإعلام اليمني يتمثل في “إعلام الكراهية والتحريض على العنف” مشدداً على ضرورة إجراء إصلاحات شاملة للمؤسسات الإعلامية من خلال إصلاح الهيكل القانوني لقطاع الإعلام” مشيراً إلى أن الخطاب المتطرف “تحوّل إلى ثقافة وسابقة إعلامية خطيرة في المشهد الإعلامي اليمني”.
ويشير القدسي إلى ظهور وسائل إعلام جديدة تتبع أطرافاً وجهات محلية وخارجية “بأجندة تعتمد على التمويل المالي الذي تحصل عليه”، حيث سعى أمراء الحرب منذ البداية إلى السيطرة والاستحواذ على وسائل الإعلام من أجل توظيفها في خدمة أجنداتهم والمساهمة في “تشكيل رأي عام يسمح بتمرير خططهم لإطالة أمد الحرب”.
ويرى القدسي أن غياب دور الإعلام المستقل في تغطيات أحداث النزاع، سببه “غياب التأطير القانوني في حماية الصحافيين اليمنيين منذ ما قبل الحرب” في ظل الاستهداف المتكرر للصحافيين اليمنيين، معتبراً أن حملات ترهيب الصحافيين وتصاعد الضغط عليهم إضافة للظروف المعيشية، أمورٌ “أجبرت البعض لممارسة بعض التجاوزات المهنية، في ظل غياب أدوات الضبط المهني بعد اقتحام مقر نقابة الصحافيين بالعاصمة صنعاء من قبل جماعة الحوثي”.
“فوضى التضليل الإعلامي” و”ضعف مصداقية وسائل الإعلام اليمنية” هكذا يصف القدسي واقع الإعلام اليمني والذي قال أنه جاء نتيجة “انسياق الصحافيين وراء ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي ونقله دون تدقيق أو تثبت”، معتبراً أن هذا الوضع يتطلب “رفع كفاءة الصحافيين في مجال التحقق الرقمي، وبناء قدراتهم المهنية” خصوصاً في ظل “تجييش أطراف النزاع لكثير من الكتائب الإلكترونية لضخ معلومات مضللة وشائعات تروج للكراهية والعنف مشيراً إلى أهمية “تأسيس مرصد إعلامي لرصد ومناهضة لغة الكراهية في وسائل الإعلام اليمنية”، وتنفيذ حملات مناصرة لـ “ضحايا الكراهية الإعلامية” وإنجاز “مدونة سلوك مهني وميثاق شرف إعلامي لتجنيب الصحافيين لغة الكراهية والتحريض في تغطيتهم لأحداث النزاع” مع أهمية “سن قانون إعلامي يجرم التحريض على الكراهية والعنف” ويضمن حماية الصحافيين من “الضغوطات السياسية والأمنية”
وأشار القدسي إلى مبادرة بعض المنظمات إلى تدريب بعض الصحافيين في مجال صحافة السلام والصحافة الحساسة للنزاعات، والإعلان عن «مبادئ لتعزيز دور الإعلام اليمني في بناء السلام» مشيراً إلى أن الكثير من الدراسات شخصت أسباب الفوضى الإعلامية في اليمن، وكان يتمنى لو أنها طبقت.

القدسي طالب الصحافيين برصد “كافة جرائم الانتهاكات التي تعرضوا لها أو تعرض لها زملاؤهم، بطريقة قانونية دقيقة ومهنية” وذلك ليسهل التعاطي الإيجابي مع تلك الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها، حد وصفه، مهيباً بمنظمات المجتمع المدني ألا تكتفي برصد الانتهاكات بل عليها أن تقوم بـ “التكييف القانوني لتلك الانتهاكات والبدء باتخاذ تدابير قانونية لمحاكمة مرتكبيها على مستوى المحاكم المحلية والدولية كي لا تسقط تلك الجرائم بالتقادم”.

شارك