صورة عامة لطالبات في إحدى مدارس تعز

اليمن: الصحة النفسية في المدارس.. أزمة تبحث عن حل

تحقيقات معمقة

سحر “من أجل خصوصية الحالة نذكر اسمها الأول فقط” في الـ 14 من عمرها، طالبة تدرس في المرحلة الإعدادية بإحدى مدارس محافظة تعز اليمنية، وتعاني من مرض نفسي نتيجة الظروف المعيشية القاسية التي تعيشها أسرتها.
تزوجت سحر من صديق شقيقها مقابل تخلي هذا الصديق عن المبالغ المالية التي اقترضها شقيقها لتغطية ما تحتاجه عائلته ولعلاج والدته التي تعرضت لجلطة دماغية بعد وفاة والده.

مسؤولية إعالة أسرة مكونة من ثلاث شقيقات ووالدة، وقعت على عاتق شقيق سحر الأصغر، فقرر الالتحاق بالقوات المسلحة التابعة لحكومة الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي في محافظة تعز جنوب اليمن.
في ساحة المعركة، تعرف شقيق سحر على شاب بنفس عمره وسرعان ما أصبح صديقه وبدأ يقترض منه المال لتغطية احتياجات عائلته وشقيقاته في المدرسة. وصلت ديونه إلى مبلغ كبير ولم يتمكن محمد “وهذا هو اسم شقيق سحر”من إعادة المبلغ لصديقه إلى أن تقدم الأخير بطلب الزواج من سحر مقابل التنازل عن دَينه.

كانت سحر تدرس في الصف الثامن أساسي في إحدى مدارس المدينة، وبدأت تظهر على ملامحها انتكاسة في صحتها العقلية والنفسية ليتم اكتشاف حالتها من قبل إدارة المدرسة التي تمكنت من خلال الاختصاصيين من دراسة الحالة الاجتماعية للطالبة ومعرفة الأسباب التي جعلت سحر تعاني من أزمة نفسية، حاولت إدارة المدرسة إنقاذ سحر من هذا الزواج المبكر وتكفلت بتسديد ديون شقيقها وعقدت جلسة معه لمناقشة الأمر، محمد أكد لـ مديرة المدرسة ضرورة إتمام الزواج وأنه لا يستطيع التراجع عن اتفاقه مع صديقه بخصوص تزويجه بسحر.

صدمة الطفلة النفسية لم تتوقف عند تفاصيل زواجها المبكر وظروفها القاسية، فبعد أسبوعين من زواجها، قرر شقيقها محمد وصديقه الذي أصبح زوجاً لها، مغادرة محافظة تعز والتوجه إلى المناطق الحدودية اليمنية الشمالية المرتبطة بالمملكة العربية السعودية للقتال في صفوف القوات المدافعة عن السعودية، أمام قوات جماعة أنصارالله (الحوثيين) المدعومة من إيران؛ لأن هذا سيجعلهما يحصلان على الكثير من المال.
وفعلاً ذهب زوجها وشقيقها إلى الحدود، وبعد أسبوعين قُتِل محمد وصديقه وهنا كانت الصدمة النفسية العنيفة لسحر التي فقدت شقيقها الوحيد وزوجها الذي لم يمر على زواجها منه سوى شهر واحد. تحولت حياة سحر وعائلتها إلى جحيم، فالمعيل الوحيد للأسرة قتل على أطراف الحدود السعودية ولا تعرف الأسرة مصير جثته حتى اليوم.

عادت سحر من منزل زوجها إلى مسكن عائلتها وهو عبارة عن دكان بفتحة واحدة، لتعيش تفاصيل آلام الحياة مع شقيقاتها وأمها المريضة.
تقول مديرة المدرسة عن سحر بأنها تعيش مأساة نفسية وليس مجرد صدمة نفسية. تضيف: “حاولنا احتوائها ووجهنا جميع المتخصصين في الدعم النفسي والاجتماعي لمتابعة حالتها لكن الأمر لم يسر كما يجب”.
وسط الظروف التي أحاطت بهذه الطفلة، تلاشت رغبتها في التعليم أمام رغبتها في العثور على عمل لمواجهة مسؤولية إعالة أسرتها، في حين واصلت إدارة المدرسة جهودها لمحاولة إخراج سحر من حالتها فوجدت لها فرصة عمل في أحد مطاعم المدينة، لكن سحر تركت هذا العمل وبدأت في التردد على منازل الأسر التي تعيش وضعاً اقتصادياً مستقراً بغرض العمل في تقديم المنفعة داخل هذه المنازل.

تقول مديرة المدرسة: “عندما بدأت سحر العمل في المنازل، بدأتُ أشعر بأن نفسيتها محطمة، لقد رفضت العودة إلى المدرسة” تشير المديرة أن هناك الكثير من الطالبات يتقاسمن مع سحر تفاصيل ظروف مماثلة، ثم تساءلت: “ماذا يمكننا أن نفعل في ظل ندرة الموارد وغياب دور منظمات المجتمع المدني التي تنفذ مشاريعها في مجال الصحة النفسية بعيدًا عن تفاصيل الصحة النفسية وعن المشاكل التي تواجهنا في المدارس؟”.
أجمع خمسة من خبراء الصحة العقلية والنفسية الذين تحدثوا مع فريق المعهد اليمني لحرية الإعلام؛ أن المدارس قد توفر فرصاً لتحسين وتعزيز الصحة العقلية، وتمثل مكاناً يُحتمل أن يمنع تطور اضطرابات نفسية أكثر خطورة؛ لكن إذا تم دعم وحدات الدعم النفسي الاجتماعي داخل هذه المدارس من خلال تدريب المعلمين المتخصصين لتقديم الدعم النفسي، وتوسيع التدريب ليشمل جميع المعلمين في المدارس، بالتزامن مع حملة توعية واسعة تدفع بالمتضررين إلى طلب المساعدة والوصول إلى مراكز ومنظمات تقدم الدعم النفسي، لكن في الواقع، المدارس تواجه أزمة حقيقية خطيرة تتمثل في انتشار الأمراض النفسية على مستوى بعض المعلمين وبعض الطلاب على حد سواء.

معدو هذا التقرير قاموا بالنزول الميداني إلى عدد من مدارس محافظة تعز، لتقصي واقع الصحة العقلية فيها؛ رجاء الدبعي مديرة مدرسة نعمة رسام، وهي أكبر مدرسة متخصصة في تعليم الفتيات في المحافظة، وتضم 3500 طالبة، قالت: إن الحرب أثرت على الطالب والمعلم وهيئة التدريس وعامل النظافة أيضاً، وأشارت إلى أن كل القوى البشرية في المدرسة تعاني من نوع ما من الأمراض العقلية والنفسية، سواء كان ذلك بسبب الظروف المعيشية، أو نتيجة الفقر، أو نتيجة صدمة من صدمات الحرب؛ بينما لا يستطيع الطالب الخروج من حالته النفسية: “لأن العائلات تهمش الطلاب في المنزل والمعلم يهمشهم في المدرسة، لهذا يعيش الطلاب ظروفاً نفسية معقدة تبدأ مع أسرته في المنزل وتنتهي في بيئته المدرسية”.
وتوضح الدبعي من واقع تجربتها، أنه إضافة إلى الحرب والوضع الاقتصادي المتردي للأسرة اليمنية؛ فإن الطالب في المدرسة يصادف معلماً أو معلمة يعاني هو أيضاً من اضطراب نفسي، مما يؤثر على الطالب الذي يصبح في النهاية ضحية لسلسلة من الظروف النفسية في بيئته الاجتماعية، والنتيجة النهائية التسرب من المدرسة، والغياب المزمن، والتحصيل المتدني، والسلوك التخريبي، والزواج المبكر للفتيات.
هذه الظروف، تسببت في تسرب الفتيات من التعليم، حيث تفضل بعض طالبات المدارس الزواج المبكر على التعليم لسبب يتعلق بواقع الصحة العقلية والنفسية وعدم الاستقرار العاطفي والأسري، ولكن ينتهي الزواج بالطلاق في أغلب الأحوال، لأن الزوج يعاني من حالة نفسية، وفقا للدبعي

وفي دراسة أجراها الصندوق الاجتماعي للتنمية في محافظة تعز اليمنية في 2018، استهدفت 10232 طالب وطالبة، 6071 ذكور و4161 إناث، موزعين على 15 مدرسة في مديريات المدينة، وجدت أن 6533 من الذكور و2720 من الإناث يعانون من اضطرابات نفسية مختلفة، وردود الفعل السلوكية التي ظهرت على الطلاب المستهدفين؛ هي العدوان والخوف والقلق وضعف التركيز والانطواء.

يقول علي القباطي وهو مدير وحدة الدعم النفسي والاجتماعي في مدرسة ثانوية تعز الكبرى ـ أكبر مدرسة للبنين في المدينة: “إن دراسة ميدانية نفذها الصندوق الاجتماعي للتنمية في ثلاث مديريات (مقاطعات) في تعز هي “القاهرة وصالة والمظفر”؛ اتضح من خلال هذه الدراسة ــ التي وزعت استمارات تقصي على الطلاب إضافة إلى جلسات إرشادية معهم ـ أن الأعراض الأكثر شيوعاً؛ هي حالة الاكتئاب والقلق والانطواء، وكانت حالة العدوانية عند الذكور أكبر منها عند الإناث والعكس بالنسبة لضعف التركيز، وهناك تقارب بالتعلق بالأهل عند الجنسين كل ذلك جراء الصدمات النفسية، وأن أكثر الفئات تعرض لهذه الصدمات هم الأطفال”.

وأضاف القباطي: “في مدرسة ثانوية تعز الكبرى، هناك حالات وصلت إلى مرحلة محاولة الانتحار، ونفذنا برنامج الإسعافات النفسية الأولية ومن خلال التواصل مع عائلات الطلاب تم السيطرة على مثل هذه الحالات”.

أكد القباطي، إن المدارس تواجه نقصاً في المتخصصين في الدعم النفسي والاجتماعي، وأولئك الموجودين في المدارس رغم قلة عددهم يواجهون مشكلة حقيقية هي نقص الموارد، إضافة إلى عدم وجود عدد كافٍ من الأشخاص للتعامل مع أعداد هائلة من الحالات التي تحتاج إلى الدعم النفسي[

صدمة الفقد.. محاولة الانتحار

سامية ـ “نستخدم اسمًا مستعارًا للضحية لحماية خصوصيتها”ـ فتاة تبلغ من العمر 14 عاماً؛ نجت سنة 2017، هي ووالدها من قذيفة هاون سقطت على منزلها في تعز وتسببت بمقتل والدتها وشقيقاتها أمام عينيها، ورغم أنها بقت على قيد الحياة، إلا أنها تعيش تفاصيل الصدمة، لقد حاولت الانتحار داخل فصلها المدرسي.

دخلت سامية في حالة اكتئاب شديد وكانت تصرخ بصوت عالٍ وتبكي بشدة في الفصل، حاولت إدارة المدرسة والمتخصصون في قسم الدعم الاجتماعي الجلوس معها لكن حالتها كانت صعبة وفشلت المتخصصات في الوصول إلى نتائج إيجابية: “لم نتمكن من إخراجها من الحالة النفسية الحادة، كانت في حالة نوبة من البكاء”. تقول إدارة المدرسة.

في ربيع العام 2020، زميلات سامية في الفصل رأين صديقتهن البالغة من العمر 14 عاماً تحاول قطع وريدها بشفرة حلاقة، قامت طالبتان بمنعها على الفور من الانتحار؛ وتوجهت الثالثة مع صديقة أخرى إلى الأخصائية الاجتماعية طلباً للمساعدة. قالت لها إنها قلقة على صحة زميلتها العقلية.

شعرت سامية أن كل يوم يمر بها كان يوماً سيئاً، واعتقدت أن لا أحد يريد مساعدتها، وعلى الرغم من أنها أخبرت معلمتها يوماً أنها تريد الموت، لكن لم يسألها أحد: “لماذا تريدين أن تموتي؟”.
بعد محاولة الانتحار بدأت إدارة المدرسة بتفتيش حقيبتها المدرسية كل يوم؛ بينما كانت اخصائية الدعم النفسي الاجتماعي ترافقها يومياً إلى المنزل، وجلست الإدارة مع الأب في سلسلة من الجلسات، لكن حالة سامية تدهورت، ما دفع إدارة المدرسة لاستدعاء طبيب ممارس في الصحة النفسية إلى المدرسة للجلوس مع الطالبة، غير أنه لم يتفاعل مع الحالة إذ قرر عدم الجلوس مع الطالبة، واكتفى بتقديم بعض النصائح لإدارة المدرسة. تقول مديرة المدرسة: “ببساطة قام الطبيب بتأجيل الجلسة مع الطالبة ونصحنا بزيارة مدرسة الحمزة في المدينة للجلوس مع الأخصائي الاجتماعي هناك”

مديرة المدرسة: “شعرت بإحباط شديد وحزن لأنه لم يتم الوصول إلى أحد لمساعدتنا ومشاركة شعور الطالبة بمستقبلها”.

إدارة المدرسة التي تدرس فيها سامية، تابعت حالتها، قبل أن تغافلت عنها لفترة، تقول إدارة المدرسة إن “مرضها كان غير مرئي، وكانت تعاني بصمت منذ عام 2019، وكنا نظن أنها تريد أن تلفت انتباه أساتذتها بالصراخ والبكاء، لكن حالتها تطورت بشكل مخيف”. وتضيف الأخصائية الاجتماعية في المدرسة: “لقد نسيناها لفترة وكنا نتابع حضورها وغيابها فقط، لكننا فوجئنا بأن الطالبة كانت تعاني دون أن ندرك ذلك؛ كنا غافلين عنها”.
هذه الوقائع دفعت إدارة المدرسة للقيام، وبجهد ذاتي، بتأهيل وتدريب المتخصصات في مجال الدعم النفسي والاجتماعي بالمدرسة حتى يصبح بإمكانهن مواجهة الحالات النفسية العقلية في المدرسة.

عنف أسري وسوء معاملة في المدرسة

أشعر بالحزن إزاء واقع الصحة النفسية في المدارس، أكبر طالبة في سن 17 عاماً لذلك نحن نتعامل مع أطفال؛ وإذا قرر طفل في سن التاسعة الانتحار فهذا يعني أننا نواجه مصيبة. تقول مديرة إحدى مدارس تعز للبنات. لسوء الحظ، يمكن أن تكون المدارس أحياناً أماكن يتعرض فيها الأطفال لسوء المعاملة والعنف، إما من أقرانهم أو المعلمين أو مجموعات خارجية. على سبيل المثال، تم الإبلاغ عن تعرض الأقران والمعلمين للإيذاء والتنمر في سياق المدرسة.
مديرة مدرسة، روت قصة طالبة تبلغ من العمر 10سنوات، تدرس في الصف الرابع الابتدائي، تعاني من صدمة نفسية ورهاب بسبب العنف الأسري الذي تتعرض له هي ووالدتها.
الطالبة تنتمي لعائلة مكونة من زوج وزوجة وطفلتين، الأب عاطل عن العمل والأم تكافح من أجل لقمة العيش، وتعمل على تزيين النساء في الأعراس، وكل يوم يستيقظ الأب ويأخذ من الأم كل الأموال التي تملكها بالقوة، يصل الأمر إلى قيامه بضرب زوجته وطفلته.
وأصبحت الطفلة تتبول لا إرادياً، بسبب الخوف والرهاب، كانت تنهار داخل الفصل لمجرد أن صوت المعلمة يرتفع، كانت هذه المعلمة تتعامل مع حالتها بقلة خبرة. تطلب منها الوقوف أمام زميلاتها في الفصل وتوبخها: “هذه لا تفهم ولن تستطيع أن تفهم في يوم من الأيام”.
توجهت الأم إلى مديرة المدرسة وشكت إليها تعامل المعلمة في الفصل مع الطفلة.
لم تفكر المعلمة بمعرفة سبب حالة عدم التركيز التي تعاني منها الطفلة، لو جرى تدريبها وزملائها المعلمين بشكل حقيقي سيتمكنون من ملاحظة التغييرات في سلوك طلابهم، وسيكون بمقدورهم التفاعل معهم بطرق صحيحة، ولكن الحقيقة هي أن المعلمين اليمنيين يعانون أيضاً من ظروف نفسية بسبب الوضع الإنساني والأوضاع الاقتصادية العامة والحرب، إضافة إلى أنهم يتعرضون لضغوط إعداد الدروس وتصحيح المهام. وفي الواقع لم يتلق 99% من المعلمين تدريباً بسيطاً في قضايا الصحة العقلية والنفسية.

في محافظة تعز يبلغ عدد المعلمين على مستوى المحافظة 45 ألف معلم ومعلمة وتم تدريب 55 فرداً فقط في المديريات (المقاطعات) التي تتكون منها المدينة، على الدعم النفسي الاجتماعي، أي نحو معلم من كل ألف معلم. فيما معلمو الأرياف محرومين من هذا النوع من التدريب.

وبالعودة إلى حالة الطفلة التي تعاني من رهاب وخوف وتتعرض للتوبيخ في المدرسة؛ خلصت إدارة المدرسة في دراسة حالتها إلى أن الطفلة والأم أيضا تتعرضان للضرب العنيف من قبل الاب.

تقول مديرة المدرسة: شاهدت آثار الضرب على جسد الأم والطفلة التي تحاول الدفاع عن والدتها، الأمر الذي جعل الطفلة تدخل في حالة نفسية، وأصبح لديها اقتران شرطي حيث ينتابها الرعب والتبول من أي حالة هلع؛ ولمجرد أن معلمتها تصرخ في الفصل تنهار وتتبول، فإنها تربط صراخ المعلمة بعنف والدها في المنزل.

شرحت المديرة للمعلمات حالة الطفلة في اجتماع وبدأت في دعمها مالياً بمبلغ صغير، وعندما كانت المديرة في غرفة الصف لمعرفة حالة الطفلة: “احتضنتها وانهارت الطفلة وذرفت دموعها على الفور وبكت بشدة وبكيت معها وشعرت بالمأساة عندما كانت الفتاة الصغيرة تبكي وتردد: لا أريد العودة إلى المنزل، أريد الجلوس معك” تقول المديرة.
استدعت المديرة الأب، لكن حالته، بحسب وصفها، كارثية. تريد الزوجة الانفصال عنه بسبب العنف الذي يمارسه عليها وعلى طفلتها، وهو يعاني من الاكتئاب، ورفض أهل الزوجة السماح للأم بأخذ بناتها معها إلى منزلهم.
وفقاً لمديرة المدرسة، فإن سلوك المعلمة مع الطفلة لم يكن مقصوداً؛ إنما كان بسبب أن معظم المعلمين والمعلمات يعانون أيضاً من مشكلات نفسية، ما يجعلهم غير قادرين على اكتشاف حالة الطالب وإحالته إلى الأخصائي الاجتماعي.
هناك المئات من الحالات التي تعاني من ظروف مشابهة لظروف هذه الطفلة، وظروف سحر وسامية في جميع مدارس مدينة تعز. في مدرسة ثالثة قالت مديرة المدرسة: هناك عشرات المصابات في أوساط الطالبات، من بينها حالات تعاني من انفصام الشخصية وعند زيارة عائلتها اتضح لأخصائية الدعم النفسي والاجتماعي في المدرسة أن الأم تعاني أيضاً من مرض نفسي.

زي رسمي

في بداية العام الدراسي، واجهت مدرسة نعمة رسام للبنات مشكلة كبيرة فيما يتعلق بتوحيد الزي المدرسي للطالبات. وبسبب الظروف الاقتصادية التي تعيشها الأسرة اليمنية نتيجة الحرب، سُمِح للطالبات بارتداء أي زي دون التقيد باللون الذي تفرضه الحكومة، لكن المدرسة واجهت مشكلة كبيرة حيث ظهرت الطبقية والتمييز بين الطالبات في المدرسة؛ كانت الطالبات ذوات المال يلبسن أزياء أنيقة وكل يوم زي جديد، في حين أن هناك طالبات تحت خط الفقر وليس لديهن حتى ملابس بسيطة، كما لا يملكن دفتر ملاحظات لكتابة الدروس، هذا الأمر يجعل نفسية الطالبة مدمرة؛ وذات مرة جاء ولي أمر ثلاث طالبات إلى إدارة المدرسة وقال: لدي ثلاثة طالبات في المدرسة، وليس بمقدوري شراء زي مدرسي بقيمة 14 ألف ريال للطالبة الواحدة، أخبرته مديرية المدرسة أن الإدارة لم تطلب ذلك، لكن الطالبات أردن أن يشتري والدهن ملابس باهظة الثمن حتى يكن على مستوى زميلاتهن من الطبقة الغنية في الصف.
تقول الدبعي : “أخبرنا الأب أنه غير مستعد لشراء الزي المدرسي وفي نفس الوقت لم يتمكن من إقناع بناته بقبول الزي الأقل قيمة حتى لا يؤثر عليهن نفسياً، فقررت الإدارة أن ترتدي جميع الطالبات الزي المدرسي الموحد، بقيمة لا تتجاوز 6 آلاف ريال، للزي الواحد وذلك لإنهاء التفرقة بين الطالبات”.

المخدرات وفرقة التحدي

في إحدى مدارس تعز للبنات تشكلت خلية تسمى ” فرقة التحدي”، بحيث تقوم كل طالبة بتحدي الأخرى للقيام بشيء غير عادي في المجتمع، وذلك بسبب تأثير المرض العقلي والنفسي عليهن، وتطورت الفكرة من رسم الوشم على أجسادهن، إلى القيام بقطع الوريد كتحدي لمعرفة أكثر الطالبات تحملا لتدفق الدم من وريدها، في ذلك الوقت اكتشفت الإدارة أنهن يتعاطين المخدرات.

في ثلاث مدارس في تعز تحدثت الإدارات عن انتشار تعاطي المخدرات، واستطاعت إدارة بع هذه المدارس تتبع الطالبات حيث وجدت عدداً منهن، من فصول المدارس المتوسطة، تتراوح أعمارهن من 14 إلى 16 عاماً، تورطن في كارثة تعاطي المخدرات.
في تلك المدرسة تشكلت خلية تسمى “التحدي”، بحيث تقوم كل طالبة بتحدي الأخرى للقيام بشيء غير عادي في المجتمع، وذلك بسبب تأثير المرض العقلي والنفسي عليهن، وكانت كل طالبة تجتذب أكبر عدد ممكن من الطالبات في مجموعتها وتنفذ عملية تحدي، وتنوعت التحديات بينهن، مثل: رسم الوشم على أجسادهن، ثم تطورت الفكرة إلى القيام بقطع الوريد كتحدي لمعرفة أكثر الطالبات تحملا لتدفق الدم من وريدها، في ذلك الوقت اكتشفت الإدارة الأمر فتعقبت الطالبات، وخلصت إلى أنهن يتعاطين المخدرات.

الإجراء الذي اتخذته المدرسة هو إحالة الطالبات لمختصات في الدعم النفسي والاجتماعي واستدعاء أولياء أمور الطالبات الذين شعروا بالمسؤولية تجاه بناتهم وتعاونوا مع الإدارة والمختصين لمعرفة الحالة النفسية لبناتهم، وكانت المصادفة أن أولياء الأمور جميعاً من الطبقة المثقفة، لكنهم كانوا غافلين عن بناتهم.

مفاجأة المستقبل

يقول خبير الدعم النفسي علي القباطي إن القدرة ” على إدارة أي احتياجات إضافية للأطفال في سياق المدرسة تحتاج إلى معالجة العبء المحتمل على أعضاء هيئة التدريس الذين يواجهون نقص فرص التدريب المهني في مواجهة تحديات الصحة النفسية في ظل شحة في الموارد وغياب الدعم المستهدف لتطوير برامج وحدات الدعم النفسي”.
ويشير القباطي إلى إن نقص دعم الصحة العقلية والنفسية داخل المدارس، قد يجعل المعلمين أقل استعداداً لإدارة الصعوبات العاطفية والسلوكية التي تنشأ في فصولهم الدراسية ما لم يتم دعمهم بشكل صحيح.

أما أخصائي علم النفس الإكلينيكي في مدرسة ثانوية تعز؛ جميل سيف، فيقول: “المعلم مهمل من قبل الدولة ويعامل كموظف من الدرجة الخامسة، ويعاني معظم المدرسين من حالة نفسية نتيجة الأزمة الاقتصادية والوضع المادي الذي يعيشون فيه”. ويضيف: “المعلم اليوم غير قادر على تزويد ابنه بالزي المدرسي، وهذا يؤثر على نفسيته ويشعره بإحباط شديد من المجتمع المحيط به، ورغبته في التدريس غائبة، وقد يتعامل مع الطالب بعنف بسبب حالته النفسية”.
وقال مختص علم النفس التطبيقي؛ رئيس وحدة الدعم النفسي في مدرسة ثانوية تعز للبنين، علي القباطي، “يتفاقم غياب الأولوية في الخدمات على نطاق واسع بسبب ضعف التدريب ووصمة العار، مما يحد من استيعاب وفعالية خدمات الصحة العقلية المتاحة للأطفال وآبائهم وأسرهم ومعلميهم، وأضاف: بعض المنظمات نفذت برامج تتعلق بالدعم النفسي وإعادة التأهيل، لكن موضوع الدعم والتأهيل النفسي يعد من البرامج النوعية التي تحتاج إلى كوادر مؤهلة علمياً وعملياً، ولا يمكن لأي شخص تنفيذ برامج من هذا النوع، وبالنسبة للبرامج المدعومة من قبل المنظمات الدولية، تكمن المشكلة في عدم وجود رقابة ومتابعة أثناء التنفيذ لأن من يعمل على تنفيذ هذه المشاريع من الشركاء في المنظمات المحلية ليس لديهم أبسط المفاهيم الأولية فيما يتعلق بالدعم والتأهيل النفسي، وبالتالي فإن النتائج السلبية تؤدي إلى تفاقم الحالات بدلاً من إفادتها، ولا تحقق أي تأثير سواء على المستوى القريب أو الطويل.

ودعا القباطي المنظمات المانحة إلى التدقيق في اختيار الشركاء من المنظمات المحلية التي لديها خبرة وكفاءة في موضوع الدعم النفسي وإعادة التأهيل حتى لا نفقد قيمة المنحة المخصصة للبرامج من هذا النوع دون تحقيق أثر ونتائج ملموسة تفيد الطالب المستهدف.
وأشار إلى أن منظمات المجتمع المدني أشبه بالمدرسة في بناء المجتمعات إذا كانت تعمل بضمير وأمانة وإنسانية، وعليها أن تترك المجالات النوعية لمن لديه الخبرة الكافية في هذا الأمر، وقال: “بالوقت الذي نشكر فيه المنظمات المانحة كثيراً، نطالبهم أيضاً بالإشراف والتدقيق على مشاريع الدعم النفسي من أجل تحقيق الأهداف وإمداد الطلاب بالخبرة الصحية الجيدة. وإذا لم نقف بصراحة أمام واقع الصحة العقلية والنفسية في المدارس، فسنواجه كارثة تتمثل بجيل معقد وعدواني قد يكتسب حتى سلوكا إرهابيا”.
من جهتها أكدت مديرة مدرسة نعمة رسام للبنات رجاء الدبعي، أن «الصحة النفسية في المدارس مدمرة. ونحن في المدرسة نواجه مآسي على مستوى الطالب وعائلته ونحاول إيجاد الحلول لكن لا توجد منظمات تدعم برامج الصحة العقلية في المدرسة بشكل مباشر”.

دور إيجابي

تلعب المدارس دوراً مهماً في تعزيز الصحة النفسية لأنها تصل إلى نسبة كبيرة من السكان ومن واجبها أن تحاول معالجة عوامل الخطر وتقوية عوامل الحماية بطريقة فعالة، وعلى الرغم من عدم وجود منظمات داعمة لبرامج الصحة النفسية في المدارس اليمنية بشكل مدروس، إلا أن عدد محدود من المدارس لم تنتظر تدخل المنظمات المحلية والدولية والدعم الذي لم يأت، فعملت بجهود ذاتية لمواجهة تحديات الصحة النفسية في البيئة المدرسية. على سبيل المثال، تمكنت مدرسة نعمة رسام للبنات في تعز من تدريب 90 معلمة من أصل 217 معلمة على الدعم النفسي والاجتماعي، لكن هذه الجهود خارجة عن اهتمامات الحكومة اليمنية والمنظمات المحلية والدولية، وتمكنت ثلاث مدارس أيضاً من تلبية الاحتياجات خارج المدارس، على سبيل المثال، تمكنت من الوصول إلى عائلات طلابها من خلال الباحثين الاجتماعيين في المدارس.

ما تحتاجه المدارس هو دعم برامج الصحة العقلية والنفسية بشكل مباشر، وبدون دعم مباشر لوحدات الدعم النفسي والاجتماعي، لن تتمكن تدخلات الصحة النفسية المدرسية الحالية من الوصول إلى مجموعات كبيرة من الأطفال الذين يحتاجون إلى رعاية ضرورية.

ويجب أن يكون تحديد نقاط الوصول إلى الخدمات لهؤلاء الطلاب أمراً رئيسياً وأولوية للمنظمات والحكومة، وفقا لعدد من الخبراء الذين تم مقابلتهم.
بحسب إفادة إدارات خمس مدارس، فإن المنظمات المحلية والدولية لم تقدم أي نوع من الدعم لبرامج الصحة العقلية والنفسية في المدارس، وأن أنشطة المنظمات تقتصر على الترفيه أو تنفيذ نشاط في الإذاعة المدرسية ضمن إطار الدعم النفسي للطلاب، بينما الأزمة مزمنة والواقع يتجاوز موضوع البرامج السطحية كما يرى أستاذ الإرشاد النفسي التربوي في جامعة تعز، رشاد علي.
وأكدت رجاء الدبعي إن جميع الأنشطة التي يتم تنفيذها من قبل المنظمات عبارة عن نشرات تُقرأ على منصة الإذاعة المدرسية، أو دورات تدريبية في الدعم النفسي تستهدف الطلاب لتزويدهم بالألعاب، بينما الأزمة أكبر من لعبة في الواقع، لذلك لا يوجد تأثير ملموس، ولا يوجد نتائج.
وقالت الدبعي: “يفترض بجميع المنظمات ولكل من يهتم بالتعليم والصحة العقلية والنفسية؛ مناقشة احتياجات الصحة العقلية في المدارس، ومعرفة احتياجاتها الفعلية في هذا الجانب، في مدرستنا نفكر بإنشاء مستوصف صغير للصحة العقلية من يمكنه دعم ذلك؟” تساءلت الدبعي، وأردفت: “الطالب سئم من سطور الكتيبات والنشرات، والمعلم يقول الكثير من الكلام في حجرة الدراسة، والإدارة تقول الكثير من الكلام في طابور المدرسة”.
أما مختص الدعم النفسي والاجتماعي علي القباطي؛ فذكر بأنه عمل في تدريب مجموعة من المدرسين والمدرسات مع إحدى المنظمات ووجد أن المستهدفين غير المتخصصين في علم النفس وعلم الاجتماع ورياض الأطفال لم يستفيدوا من هذا التدريب بسبب عدم توفر الخبرة الأولية التي تمكنهم من اكتساب مهارات تقديم الدعم النفسي للطالب؛ بينما المدرسين المتخصصين كانوا جيدين خلال التدريب، لذلك شدد القباطي على تكيف التدريب مع المعلمين المتخصصين في الدعم والتأهيل النفسي، لمساعدة المتأثرين بالحرب والتعامل معهم في الفصل من الشباب والأطفال والمساهمة باستعادة واقعهم الاجتماعي بفعالية أكبر.

شارك