رحل في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2016 (فيسبوك)

اختفاء ملف قضية الصحفي اليمني محمد العبسي من النيابة في صنعاء.. قتل مرتين

سياق التقرير

فري ميديا

بعد ست سنوات على اغتيال الصحفي الاستقصائي محمد عبده العبسي، لا يزال الجناة والعقول المدبرة للاغتيال خارج دائرة المساءلة والعقاب، وأخطر ما في الأمر أن ملف قضيته اختفى في أروقة نيابة غرب أمانة العاصة صنعاء بحسب محامي الدفاع.

في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2016، فُجع الوسط الصحافي برحيل محمد عبده العبسي في العاصمة اليمنية صنعاء (شمالي اليمن)، بعد حياة مهنية حافلة في مجال الصحافة الاستقصائية، تتبع خلالها الكثير من مواضيع الفساد مغامراً بحياته التي سُلبت منه في النهاية.

    تناول العبسي وجبة العشاء خارج منزله برفقة أحد أصدقائه ليلتها، وبعد عودته إلى المنزل، لم يكن طبيعياً، كما تؤكد، الناشطة قبول العبسي، شقيقة الصحافي: “كان يتعرق بشكل غير مألوف في ظل برد الشتاء الشديد في صنعاء”، وبعد لحظات من دخوله غرفته، “سمعنا صراخ زوجته، فأسرعنا إلى غرفته فرأيناه متشنجاً، وعيناه مفتوحتان، حاولنا مساعدته لكنه لم يكن يستجب لنا”.

    وتضيف العبسي أنه كانت تخرج من فم محمد “رغوة شديدة لونها أصفر، ولم نستطع حمله من دون مساعدة، لأن جسمه أصبح أثقل، وحين وصلنا إلى المستشفى القريب من المنزل، كان جسده أزرق، أخبرَنا الطبيب أنه توفي”.

    شككت عائلة العبسي في أن تكون الوفاة طبيعية، فرفضت دفنه، وبالفعل، اتضح أن العبسي تعرض لعملية اغتيال مدروسة، إذ مات مسموماً بحسب تقرير الطبيب الشرعي الذي صدر في 2 فبراير/ شباط 2017، بعد إرسال عينة من دم محمد لفحصها في العاصمة الأردنية عمان، حيث أظهر الفحص احتواء دم الصحافي العبسي على مادة “كاربوكسي هيموغلوبين” بنسبة 67 في المائة، وهي كمية كافية للوفاة.

    هكذا اختارت عائلته الاتجاه نحو القضاء والدفع بتحقيق جنائي، وهو ما حصل. لكن في جريمة أخرى، اختفى ملف القضية في أروقة نيابة غرب الأمانة في صنعاء بعد ست سنوات من عملية الاغتيال، وتوقف التحقيق.

    يؤكد أحد المحامين المشاركين في هيئة الدفاع (نتحفظ عن ذكر اسمه لأسباب أمنية) أنه والعائلة في عام 2022 أُبلغوا بشكل غير رسمي أن النيابة أصدرت قراراً بحفظ ملف القضية لعدم كفاية الأدلة، “وعلى أثره، تقدمنا بطلب لوكيل النيابة بتسليمنا نسخة من القرار كي يتسنى لنا اتخاذ إجراءات الطعن فيه، فإذا بنا نجد إفادات المختصين متناقضة بين من ينفي صدور أي قرار في القضية ومن يفيد بعدم وجود ملف القضية أصلاً”.

    ويقول إنّ السلطات القضائية تعاملت مع قضية العبسي بنوع من اللامبالاة، مشيراً إلى أن ملف القضية استمر في مرحلة جمع الاستدلالات في المباحث الجنائية ثلاث سنوات، وأن القضية خضعت للمماطلة في الإجراءات القانونية واستدعاء المتهمين الأولين للمثول أمامها، ويضيف أنه وبعد مرور ثلاث سنوات أخرى على إحالة الملف إلى النيابة، لم تتخذ أي إجراء، على الرغم من تقديم طلبات لاستيفاء بعض النواقص لعضو النيابة عبد السلام الظاهري الذي ترك ملف القضية في المنزل.

    وفي إطار شرحه التطور القضائي للقضية، يقول “هناك إيقاف متعمد للقضية من السلطات نتيجة ضغوط من قبل بعض النافذين”، معتبراً واقعة اختفاء ملف قضية قتل في أروقة النيابة “سابقة خطيرة في تاريخ القضاء اليمني”… فبالإضافة إلى وجود أدلة دامغة تؤكد أن العبسي توفي مسموماً، كما أظهر فحص العينة في الأردن، يحتوي ملف القضية على خيوط تؤكد تورط أشخاص مقربين من جماعة الحوثي وردت أسماؤهم في الملف، “ولكن لم نستطع الوصول إليهم بسبب نفوذهم”.

    لكن لفهم هذه القضية جيداً، وسبب خوف محامين كثر من المرافعة والدفاع عن حق العبسي، لا بد من العودة إلى المسيرة الصحافية الاستقصائية لهذا الأخير. والقضايا المهمة التي حاول كشف أسرارها.

    محمد وصحافة الاستقصاء

    يقول الناشط الحقوقي، عمار السوائي، وهو أحد أصدقاء العبسي، ل” فري ميديا”: “إن العبسي خلال عقد ونصف من حياته الصحفية ركز على موضوعين رئيسيين، هما: ملف الطاقة المباعة وملف النفط والغاز المسال، والأخير يعتبر ملف الصراع منذ سبعينيات القرن الماضي وإلى اليوم، وفي 2011 أضاف إلى قائمة اهتماماته ملف جرحى الثورة”.
    وأضاف السوائي: إلى ما قبل اندلاع الحرب في أواخر2014،  كان العبسي يشكل رعبًا لإحدى أهم شركات النفط والغاز في العالم: «شركة توتال الفرنسية» لقد أنتج سلسلة من التقارير المعمقة حول صفقات فساد بين هذه الشركة ونافذين حكوميين في عهد النظام السابق، كما عمل على نشر ملفات تثبت تورط حكومة الرئيس اليمني السابق علي صالح، إذ عقدت الحكومة حينها صفقة لبيع الغاز إلى حكومة كوريا الجنوبية بأسعار زهيدة مقابل امتيازات شخصية وعمولات، وفي العام 2010 أسَّس العبسي «التحالف الوطني لمناهضة صفقة الغاز المسال والصفقات المشبوهة».

    نشاطه قبل الاغتيال


    في ٢٠١٥ دخلت قيادات من جماعة الحوثي ـ وتسمى أنصار الله ـ  كلاعبين جدد في قطاع النفط والغاز، فاستمر الصحفي محمد العبسي بتتبع فساد هذا القطاع، وسلط الضوء على استخدام النفط في سياسة اقتصاد الحرب لصالح الحوثيين.
    يشير تقرير لجنة الخبراء المعنية باليمن المرفوع إلى رئيس مجلس الأمن الدولي بتاريخ  25 يناير/كانون الثاني 2019 أن محمد العبسي كان يعمل على تحقيق حول امتلاك قيادات الحوثيين شركات نفطية عملاقة يتم عبرها استيراد النفط، وأن العائدات تمثل مورداً ضخماً لهم.
    وفي منتصف فبراير/شباط 2019، أفادت لجنة الخبراء المعنية باليمن والتابعة لمجلس الأمن الدولي، بأنها لاحظت حدوث جريمة قتل، راح ضحيتها الصحفي محمد عبده العبسي، والذي كان يحقق في النشاط المالي لقيادات في «جماعة أنصار الله» (الحوثيين).
    يقول الصحفي فكري قاسم عضو مجلس إدارة نقابة الصحفيين اليمنيين، ل”فري ميديا”، إن العبسي قبل اغتياله، اتّجه لنشر موضوعات عن فساد الحوثيين في قطاع النفط وتأسيسهم للسوق السوداء بعد اقتحامهم لصنعاء في أواخر 2014.
    وأوضح قاسم أن الصحفي العبسي لم يكن مدركاً لخطر تناوله موضوعات تمس الملف الاقتصادي لجماعة الحوثي، مؤكداً إن العبسي كان يعمل على تحقيقات حول تورط القيادي الحوثي الأبرز محمد عبدالسلام في ملف فساد النفط في اليمن، وتوصل للعديد من الوثائق والمعلومات من شبكة مصادره الواسعة، من بينهم رجل الأعمال المستثمر في مجال النفط، عمار توفيق عبدالرحيم. ويشير قاسم إلى أن العبسي كان يتواصل مع عمار توفيق ليمده ببعض الوثائق، وحين اعتقلت جماعة الحوثي، رجل الأعمال، لم يكن العبسي في البداية يعلم بذلك فاستمر بإرسال الرسائل التي كانت تذهب إلى الحوثيين، فاطلع الحوثيون على ما يريده الصحفي وما يخطط له وماهية تحقيقه المقبل.
    وبدأ العبسي يشعر بالخطر، فحاول التواصل مع عدد من أصدقائه الصحفيين، كما تقول الصحفية وداد البدوي، التي التقت العبسي في صنعاء، قبل اغتياله، “وجدته خائفاً حيث أخبرني أن المصدر الذي يمده بالمعلومات والوثائق، تم اعتقاله، وأن الجهة التي اعتقلته اطلعت على الرسائل والاتصالات بينهما.“.  وعقب ذلك، تلقى العبسي سلسلة من التهديدات، عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر اتصالات مباشرة، وفي يوم من الأيام جرى تحطيم زجاج سيارته أمام منزله، التمس العبسي جدية تلك التهديدات، وتوقف عن النشر المباشر لوثائق الفساد في قطاع النفط، عبر مدونته الشخصية، وبدأ يعمل على تسريبها عبر صحفيين وسياسيين خارج مناطق سيطرة جماعة الحوثي، فالعبسي كان بحوزته نحو ٣٠ ألف وثيقة تكشف الفساد في ملفات متعددة أبرزها ملف الطاقة والنفط، كما أخبر عمار السوائي عندما نصحه بالتوقف عن نشر الوثائق وتسريبها، وأخبره أيضاً، أنه يرتب للخروج من صنعاء، ولكن بعد هذه المحادثة بأيام تفاجأ عمار بخبر موته، كما يقول.

    تعثر

    في حرب مستمرة منذ سبع سنوات دفع الصحفيون فاتورة باهظة في أنحاء البلاد، وتقول الناشطة ألفت يوسف منسقة مشروع «أصوات حرة» الذي ينفذه مركز فري ميديا للصحافة الاستقصائية، ويوثق لأبرز ١٠٠ انتهاك ضد الصحفيين، أن فريق المشروع رصد 27 واقعة قتل ضد الصحفيين في ثلاث محافظات يمنية (تعز، صنعاء، عدن)، منها 12 واقعة اغتيال مخطط لها، و15 واقعة قتل كانت استهداف مباشر للصحفيين اثناء تغطيتهم للنزاع المسلح.
    وأكدت يوسف أن 17 قضية، من هذه القضايا، لم يتم التحقيق فيها مطلقاً من قبل مؤسسات إنفاذ القانون والنيابات العامة، و8 قضايا متعثرة في مرحلة جمع الاستدلالات، وقضيتان فقط تتواصل فيهما سير المحاكمة، الأولى في عدن جنوب البلاد، حيث أدانت محكمة صيرة، المتهم بقتل المدون عمر باطويل، الذي تم اغتياله في عدن في أبريل/نيسان ٢٠١٦ رغم أن المحكمة لم توجه إدانة للمدبرين الذين يقفون خلف عملية الاغتيال، والأخرى في تعز، حيث مازالت محكمة الغرب في محافظة تعز تعقد جلساتها للبت في قضية اغتيال الصحفي المستقل فواز الوافي.
    وفي جميع الحالات ما يزال الجناة أحراراً من دون حساب أو مساءلة لردع الجريمة التي باتت كابوساً يهدد حرية التعبير والصحافة في اليمن. كما تقول يوسف.

    شارك