بزنس في مستشفيات يمنية: أول العلاج البتر

تحقيقات معمقة

في صباح السابع من تموز/ يوليو 2017، خرجت دليلة محمد لجلب الماء من مكان يبعد 200 متر عن منزلها في قرية الشقب، في جبل صبر، جنوب مدينة تعز الواقعة على مرتفعات اليمن الجنوبية. طريق العودة غيّر مجرى حياتها إلى الأبد. داست على لغم، فانفجر وتناثرت معه أحلامها.

معاناة دليلة (25 عاماً) من الحرب الدائرة في اليمن والمستمرة منذ أكثر من سبعة أعوام أضيفت إليها معاناة جديدة، بعد بتر رجليها اليمنى جراء الانفجار واليسرى بسبب الإهمال. صراخها داخل غرفة العمليات لم يشفع لها: “أنا فتاة مقبلة على الزواج، لا تبتروا رجلي، ليس لديّ مَن يعينني”.

على مدى عامين ونصف العام، وثّق هذا التحقيق قيام مستشفيات متعاقدة مع مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، ومقره الرياض، بعمليات نوعية بينها بتر أعضاء لجرحى يمنيين، من دون الحاجة إلى بترها، وبسبب إعطاء الأولوية للربح، ساهمت المستشفيات في ارتفاع عدد الجرحى من اليمنيين الذين أصبحوا معوقين إلى الأبد، في ظل غياب الرقابة على تلك المستشفيات.

يدفع المركز عن هذه العمليات 1200 دولار كحد أدنى و4000 دولار كحد أقصى، عن كل حالة تُعالَج. وتعاني المستشفيات أصلاً من ضعف الإمكانيات وغياب الكوادر المتخصصة لإجراء العمليات الجراحية، وفي مخالفة للعقود المبرمة بين المركز والمستشفيات، بحسب مسح ميداني أجراه معدّ التحقيق، واعتمد فيه على وثائق رسمية، صادرة من وزارة الصحة اليمنية وفرعها في محافظة تعز.

وزادت حالات البتر من 70 حالة عام 2015، وقبل توقيع العقود المذكورة لتتخطى 230 حالة عام 2016 وتزيد عن 200 حالة عام 2017. وظل حوالي 150 حالة بتر كل عام، بما في ذلك 42 طفلًا و91 امرأة من تعز، بخلاف الحالات غير المؤرخة في السجلات الحكومية غير المكتملة التي تم الحصول عليها من مركز تعز للأطراف الصناعية، واللجنة الحكومية الخاصة بشؤون الجرحى، وقواعد البيانات سيئة التحديث من بعض المستشفيات.

من بين 574 حالة بتر، وجد معد التحقيق، أكثر من 117 حالة بتر في مستشفى البريهي وراء الكثير منها جراح أوكراني الجنسية، يحمل وثائق وشهادات طبية مزورة. وأظهرت شهادات المرضى والجراحين والمسؤولين الصحيين وتقارير المراقبة أن المستشفيات امتنعت عن توظيف أخصائيين كانت حالات الجرحى في حاجة ماسة لهم؛ مثل جراحي الأوعية الدموية الذين يجب أن يشاركوا في قرار البتر.

“ناس لا يخافون الله”، يقول والد دليلة، متحدثاً عن المستشفى الذي أجرى عملية البتر لابنته، ويضيف: “استُقدم طبيب أجنبي إلى المستشفى من أجل بتر أعضاء الناس، ومَن يدخل المستشفى تُبتر رجله من أجل الحصول على 4000 دولار، يدفعها مركز الملك سلمان للإغاثة عن كل حالة”.

الألم نفسه عاشته آلاء عبد الفتاح (ثلاث سنوات). أصابتها قذيفة وهي في منزلها في حي الثورة في تعز، وبترت رجلها اليسرى من دون داعٍ، غير الإهمال.
آلاء واحدة من 41 طفلاً/ة خضعوا لعمليات بتر أعضائهم في الفترة بين عاميْ 2016 و2018، مقارنة بحالة واحدة لطفل في العام 2015، قبل توقيع العقود، بحسب ما وثّقه التحقيق.
يقول والدها: “عارض مستشفى الصفوة وبشدة نقل آلاء إلى مستشفى الروضة في المدينة، والممانعة ليست من أجل محاولة إنقاذ ابنتي، وإنما لإجراء عملية البتر”. وأكدت الدكتورة إيلان عبد الحق وكيل الشؤون الصحية بمحافظة تعز، أن ادارة مستشفى الصفوة رفضت نقل الطفلة، قبل أن يتم الاتفاق لاحقا على نقلها الى مستشفى الروضة.

بعد نقل الطفلة إلى مستشفى الروضة في تعز لإنقاذ ساقها، حاول أخصائي الأوعية الدموية الدكتور طارق نعمان في المستشفى الروضة إجراء عملية جراحية، لكن نسبة نجاح العملية كانت ضعيفة، بعد تأخر الطفل لأكثر من 24 ساعة، وبترت ساقها من فوق الركبة.
تواصل معد التحقيق مع استشاري جراحة الأوعية الدموية طارق نعمان عبر رقم هاتفه المرتبط بتطبيق واتساب، وطلب منه تفاصيل تتعلق بقصة آلاء، وفي 12 أبريل / نيسان 2018 بعث نعمان برسالة تفيد بوجوده خارج اليمن، وأن مستشفى الروضة أصدر تقريرًا بهذا الشأن. وجاء في التقرير الطبي الصادر عن مستشفى الروضة بتاريخ 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2017: بتوقيع الجراح طارق نعمان ما يلي: “بعد 24 ساعة من العملية السابقة التي أجريت في المستشفى الآخر (الصفوة)، وصلت الطفلة إلى مستشفى الروضة وعليها آثار عملية جراحية، وكانت علامات نقص تروية الدم واضحة على القدم، وكانت القدم مزرقة والنبض غير محسوس مع برودة في القدم وقد تم إدخال المذكور لإجراء عملية استكشافية في مكان العملية الأولى واتضح أن الشريان الظنبوبي الأيسر غير متصل حيث كان مربوطاً في نهايته ولهذا بترت ساق الطفلة اليسرى”. إلا أن استشاري الجراحة العامة وعضو مجلس إدارة مستشفى الصفوة شكك في التقرير الطبي الصادر عن مستشفى الروضة وقالوا: حالة آلاء كانت في الأساس بحاجة إلى بتر وأن عملية الطبيب المعالج للشريان الممزق، كانت محاولة إنقاذ ساقها فقط، وكانت هذه المحاولة معقدة لأن الإصابة كانت كبيرة.

لكن ما هي الأسباب الرئيسية لتحويل جرحى الألغام والمقذوفات إلى غرفة في مستشفى لا تتعدى مساحتها 12 متراً مربعاً ليخرجوا منها وقد بُترت أطرافهم؟

يقول الدكتور مختار المليك، أخصائي في جراحة العظام والمفاصل والحوض، وعمل مع مستشفيات متعاقدة مع مركز الملك سلمان: “الخطة العلاجية لا بد أن تتضمن ما يحتاجه الجريح من عمليات جراحية، وفحوصات وصور أشعة تشخيصية. وهذه النقطة بالذات لعبت دوراً كبيراً في مسألة البتر، لأنه وفق الخطة العلاجية قد يحتاج المريض لأكثر من عملية، والمستشفيات تلجأ إلى البتر للتخلص من التكاليف التي تُدفع للأطباء مقابل إجراء العمليات”.

تصنيف المبتورين حسب الفئات والجنس

التصنيف حسب مكان البتر والأطراف المبتورة

طبيب البتر

فيكتور كراسنيكوف Viktor Krasnikov طبيب أوكراني الجنسية، يوقّع مرة بصفة اختصاصي جراحة عامة، ومرة بصفة اختصاصي جراحة عظام، ومرة بصفة أخصائي عظام على تقارير طبية صادرة عن مستشفى البريهي

حاولنا معرفة تخصصه عبر التواصل مع مدير عام مكتب الصحة العامة والسكان في محافظة تعز الدكتور عبد الرحيم السامعي، فقال الأخير: “اطّلعت على مؤهلاته، والطبيب أكمل الكورسات ومُنح شهادة الطب العام، لكن شهادة الاختصاص غير متوفرة”.
كراسنيكوف أيضاً ليس لديه ترخيص مزاولة مهنة الطب من نقابة الأطباء في تعز، ولا من المجلس الطبي في عدن أو صنعاء، بحسب تأكيد نقابة الأطباء في تعز والمجلس الطبي الأعلى ومكتب الصحة والسكان في تعز. لكن ظروف الحرب في اليمن أتاحت له العمل هناك.
اطّلع معدّ التحقيق على 44 تقريراً طبياً من تقارير المبتورة أطرافهم موقعة من قبل كراسنيكوف الذي حوّلهم على البتر رغم عدم تخصصه في جراحة العظام، حسبما أفاد مكتب الصحة والسكان.
من جانبها، نفت وزارة الصحة الأوكرانية صحة شهادة كراشنيكوف للأسباب الآتية: إن الشهادة التي دققنا فيها ليست بنفس قالب الشهادات التي تصدرها الأكاديمية الطبية الوطنية للتعليم العالي Shupyk وهي الأكاديمية المنسوبة إليها شهادته، والعميد ورئيس القسم اللذان تحمل الشهادة اسميهما لا ينتميان إلى الجامعة، كما أن مواد الجامعة لم تتضمن التخصص المذكور في شهادته وهو تخصص عظام.
لم تنجح محاولات الوصول إلى الطبيب لأنه غادر المدينة. وبعد أن واجه معدّ التحقيق محافظ محافظة تعز السابق أمين أحمد محمود والسلطات المحلية في المحافظة بما توصّل إليه حول الطبيب الأوكراني، قال المحافظ إنه وجّه مكتب الصحة التابع لوزارة الصحة بمنع الطبيب من مغادرة المدينة. لكن الطبيب غادر المستشفى ومن غير المعروف مكان إقامته أو إذا كان قد غادر اليمن.

عمليات بتر وتدمير حياة المئات

وقّع مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية عقوداً موحَّدة مع مستشفيات البريهي، الصفوة، والروضة، لعلاج الجرحى. وبلغت قيمة تلك العقود للمستشفيات التي تم التجديد معها واستمرت حتى عام 2020 بحسب بيانات المركز ما يقارب 16 مليون دولار أمريكي، خلال الفترة بين نيسان/ أبريل 2016حتى كانون الثاني/ يناير 2020، وذلك لعلاج 3200 جريح في تعز.
وبلغت قيمة العقود الموقعة مع مستشفى البريهي ثمانية ملايين وأربعمائة ألف دولار، وفي مستشفى الصفوة، سبعة ملايين ومائتي ألف دولار، فيما حصلت مستشفى الروضة على ستمائة ألف دولار فقط لمرة واحدة.
ويدفع المركز ما بين 600 و800 ألف دولار في العقد الواحد. ولكل حالة بحسب العقد 4000 دولار كحد أعلى و1200 دولار كحد أدنى.
وبحسب تقارير المركز، جرى دعم قطاع الصحة في اليمن خلال الفترة بين عاميْ 2015 و2018 بنحو 418 مليون دولار.

“”

كيف اختيرت المستشفيات الثلاثة؟ وقّع المركز العقود مع المستشفيات بناء على تزكية وزارة الصحة اليمنية التي أفادت أن العقد وُقّع من قبل السلطة المحلية في المحافظة.

وينفي مدير عام مكتب الصحة في محافظة تعز الدكتور عبد الرحيم السامعي ذلك، ويقول: “ليس لمكتب الصحة أي علاقة في عملية اختيار المستشفيات المتعاقدة مع مركز الملك سلمان، ولم تتم العودة إلينا في عملية التعاقد مع هذه المستشفيات، وسيكون لنا رأي مختلف في عملية الاختيار إذا كانت العقود تمر عبر المكتب”، مشيراً إلى أن “مستشفى البريهي غير مؤهل للتعاقد”.

الرئيسة السابقة لـ”اللجنة الطبية لجرحى تعز” التابعة لوزارة الصحة، وهي لجنة شُكّلت عام 2017 لتقديم التمويل الحكومي اللازم للجرحى، الدكتورة إيلان عبد الحق، وهي تشغل أيضاً منصب وكيل محافظة تعز لشؤون الصحة، علّقت بأن “المستشفيات المتعاقدة مع مركز الملك سلمان غير مؤهَّلة لعلاج الجرحى”.

ولا توجد آلية واضحة في مركز الملك سلمان لاختيار المستشفيات، لكن العديد من المسؤولين الحكوميين اليمنيين الذين تمت مقابلتهم قالوا إن كبير منسقي القطاع الصحي السابق في مركز الملك سلمان، ويدعى سليمان الشريع؛ هو صاحب القرار من حيث الجهات التي تتلقى التمويل في جميع القطاعات الصحية اليمنية، ويختار المستشفيات بالتنسيق مع مسؤولي الصحة من الجانب اليمني العاملين في “مشروع برنامج علاج اليمنيين والمصابين في مستشفيات القطاع الخاص المدعومة”. من مركز سلمان “والحصول على الموافقة اللازمة من مكتب وزير الصحة بالرياض.

بينما تنص العقود الموقعة بين مركز سلمان والمستشفيات على مؤهلات محددة للمستشفيات لتكون مؤهلة لتلقي الأموال، ووفقًا لشروط العقد، الذي ذكر أن وزارة الصحة قالت إن المستشفيات هي ” مؤهل علمياً وطبياً لتقديم كافة أنواع الخدمات الطبية والعلاجية “. لكن في الحقيقة، تثبت تقارير المراقبة الرسمية أن المستشفيات الثلاثة التي تم التعاقد معها (الروضة، والبريهي، والصفوة) غير مؤهلة ولديها نقص في الموارد وتفتقر إلى الكوادر الطبية المهرة في مخالفات صارخة للشروط. العقد، ومعايير السلطة المحلية التي تم وضعها للمستشفيات المتعاقدة مع مركز سلمان، وبحسب ما لا يقل عن ثلاثة تقارير كتبها مسئولون صحيون مكلفون بتفتيش المستشفيات.

ماذا يحدث داخل تلك المستشفيات؟

يصل المريض بجروح جراء لغم أو مقذوف. يستقبله طبيب عام ويُحوَّل على البتر من دون الرجوع إلى اختصاصي عظام وتجميل وأوعية دموية، بحسب شهادات لجرحى وثقها التحقيق.
وقرار البتبر بحسب استشاري جراحة العظام مطهر العريقي، يتخذ من استشاري الأوعية الدموية، واستشاري العظام، وأحياناً يكون استشاري التجميل هو الثالث.
وبحسب الدكتور أبو ذر الجندي، عميد كلية الطب في جامعة تعز سابقاً، ينبغي أن يكون قرار البتر قراراً جماعياً يشترك فيه فريق مكوّن من استشاري في الأوعية الدموية، واستشاري في العظام واستشاري في الأعصاب.
وأضاف: في حالة الطوارئ، يجب أن يتوفر فريق من أطباء الطوارئ بقيادة طبيب متخصص؛ ومع ذلك، فإن المستشفيات في تعز، بما في ذلك تلك التي تتعاقد مع مركز الملك سلمان، ليس لديها استشاري طوارئ أو استشاري للحالات الحرجة؛ ولا يوجد استشاري عناية مركزة وحالة المريض تتدهور وتموت بسبب عدم وجود طبيب رعاية. حسب شهادته.
وقال الجراح اليمني عارف المخلافي: لا يوجد تقييم حقيقي لحالة المريض من قبل ذوي الخبرة، والبتر مثل السباق للحصول على المال”.
وفي 90 في المائة من عمليات البتر، طلب المختصون في مراكز الأطراف الصناعية بمحافظة تعز إعادة تصحيح عملية البتر لأن المبتور غير قادر على استخدام الطرف الصناعي، ولو مرة واحدة بسبب بروز عظمي أو عصب نتيجة البتر الجراحي الأول، بحسب مدير مركز الأطراف منصور الوازعي، وعدد من الجرحى

رفضتُ البتر فلم يعودوا يستشيروني

أصبحت حالات البتر هي الوسيلة الأسهل لاختصار العلاج وتسريع خروج المريض من المستشفى، وبالتالي تحصيل الحد الأقصى (4000 دولار) عن الحالة.

وقال إشتشاري الأوعية الدموية الدكتور أبو ذر الجندي: إن “المستشفيات هادفة للربح، وبتر الأطراف يعني أن الجرحى سيغادرون المستشفى في غضون أيام بدلاً من البقاء لأشهر إذا أجروا عمليات جراحية لإنقاذ الأطراف”.

ويؤكد جراح العظام مختار المليك الذي عمل في مستشفيات متعاقدة مع مركز الملك سلمان، قبل أن يوقف العمل معها، أنه رفض عمليات بتر قرر المستشفى إجراءها. ويقول عن إحدى الحالات: “وصلتُ إلى غرفة العمليات وشاهدت الجريح، طلبتُ أن نعطي فرصة للمريض بعدم بتر رجله، إلا أن إدارة المستشفى رفضت بحجة أن العظام متضررة”.

حاول المليك تغيير موقفهم قائلاً: “أستطيع القيام بعمليات للعظام، بشرط أن يقوم جراح الأوعية الدموية بإجراء عملية للأوردة المتضررة”. لكن إدارة المستشفى رفضت ذلك قطعاً، وقالت إن الجريح يحتاج إلى عمليات عدة طيلة عام كامل ونحن في حرب، وقررت البتر.

يضيف المليك: “رفضتُ، وأخبرتهم أنني هنا من أجل الإصلاح وليس البتر. وإذا كان قراركم البتر يمكنكم استدعاء طبيب آخر للبتر، وغادرت غرفة العمليات”.

كيف نجا سهيل من البتر؟

في 27 تموز/ يوليو 2017، أصيب سهيل النجاشي (18 عاماً) بطلقات نارية اخترقت مناطق متفرقة من جسده، وفي رحلة البحث عن علاج لساقه داخل مستشفيات تعز المتعاقدة مع مركز الملك سلمان، كان القرار هو البتر.
طيلة عام كامل، ظلّ سهيل يتردد على مستشفيات قررت بتر ساقه. رفض فكرة البتر، وانتقل إلى العاصمة المصرية للبحث عن حل آخر بعدما نصحه جراح العظام مختار المليك بعدم البتر.
وفي نيسان/ أبريل 2018، عاد الشاب إلى منزله في محافظة تعز سليماً يمشي على قدميه، ويتوعّد بمقاضاة المستشفيات التي أرادت بتر ساقه بعد تأكيد العديد من الأطباء من جراحي العظام والتجميل والأوعية الدموية فيها أن علاج ساقه هو البتر ولا شيء غيره.

وثّق معدّ التحقيق بعد جولات داخل المستشفيات المتعاقدة مع مركز الملك سلمان، والتواصل مع جرحى داخلها، أنها ترفض استدعاء بعض الأطباء، بينهم جراح العظام مختار المليك. وأكدت الدكتورة إيلان عبد الحق أن المستشفيات المتعاقدة مع مركز الملك سلمان ترفض استدعاء المليك. ومع ذلك يتم استشارته من قبل أسر الجرحى والأخذ بنصيحته، أحيانًا في سرية؛ لثقتهم أنه سيقول لهم الحقيقة.

اعتراف حكومي

لم تكن هناك حاجة لإجراء معظم عمليات البتر التي جرت في المستشفيات المتعاقدة مع مركز الملك سلمان، بحسب الدكتورة إيلان عبد الحق التي أشارت إلى أن عمليات البتر في مستشفيات تعز هي بغالبها لحالات لا تستدعي البتر. وأضافت: “يدخل الجريح المستشفى بجروح من الدرجة الأولى تحتاج للتعامل معها إلى اختصاصيين، ولكن الكادر المتواجد في المستشفيات هو من المتدربين أو الخريجين، وبدلاً من معالجته يضيف إلى إصابته”.
وأكدت في إجابتها على سؤال معد للتحقيق حول علاقة النقص في الكوادر المتخصصة في المستشفيات ببتر الجرحى، أن “نقص الكوادر المتخصصة في المستشفيات ولا سيما عدم وجود اختصاصي الأوعية الدموية الذي يشارك بقرار البتر”، وأضافت: “90 في المئة من مبتوري الأطراف يعود سببهم إلى غياب المختصين”.
من جانبه، قال، رئيس فريق الرقابة في “مؤسسة اسكوب للرقابة والتقييم والتنمية”، (طلب عدم نشر هويته)، وهي مؤسسة مموّلة من مركز الملك سلمان، إن المستشفيات تفتقر للأطباء المختصين في جراحة الأوعية الدموية. وكانت الحالات التي تصل لا تحتمل التأخير لأنها إنقاذ حياة وكان لا بد من القيام بتدخل سريع لإنقاذ الجريح.
رد مركز الملك سلمان أن دور المركز: ” يقتصر على تمويل العلاج ضمن خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن؛ للتخفيف من معاناة الشعب اليمني الشقيق، وهو ليس مخولا بالتدخل في الآراء الطبية، وليس جهة رقابية على تلك المستشفيات، وليس له علاقة باختيار الكوادر الطبية التابعة لها، وإنما تعود متابعة ذلك لوزارة الصحة العامة والسكان اليمنية، أما بشأن شركة سكوب، فقد استمر العمل معها حتى نهاية العقد”.

الهروب من البتر

قرر صلاح ثابت إسماعيل (28 عاماً) الهروب من قرار بتر رجله اليسرى الذي أوصى به مستشفيا الصفوة والبريهي المتعاقدان مع مركز الملك سلمان.
وقال: “المستشفيات المتعاقدة مع مركز الملك سلمان قررت بتر رِجلي دون أي محاولة علاجية أخرى”، وأضاف: “تعالجتُ على نفقتي لكي أستطيع المشي على قدمي”.
انتقل صلاح إلى مستشفى تعز، وهو مستشفى غير متعاقد مع مركز الملك سلمان، وهناك أجريت له تحاليل وفحوصات أكدت عدم حاجته للبتر.
يقول جراح العظام والطبيب الأوزبكي عبد الملك يولدا شف، المعالج لحالة صلاح: “لم نفكر ولو للحظة في بتر رجل صلاح، كان النبض في القدم موجوداً والرِجل دافئة، وحركة المفصل موجودة والأعصاب سليمة والأوعية الدموية أيضاً سليمة، وأصابع قدمه تتحرك”، ويتابع: “إصابة صلاح كانت عبارة عن جرح متفجر وتم التعامل معه على هذا الأساس، ولا يوجد ما يستدعي البتر، ولم يدخل في تفكيرنا أن نبتر الرِجل. لا توجد أي نسبة في حالته تستدعي البتر”.

في ردّه على ما ورد عن مستشفى الصفوة، يقول استشاري الجراحة العامة ومدير عام المستشفى، الدكتور عبد الكافي شمسان، وهو أيضاً أستاذ مساعد في كلية الطب في جامعة تعز، إن مستشفى الصفوة “يتعامل بشفافية” و”الكادر الذي يعمل فيه هو كادر طبي متميز”.

وعن الحالات التي ذُكرت في التقرير، يشير إلى أن “المريض أو الجريح سوف يبحث عن أسباب كثيره عندما تكون النتائج غير مرضية له وهذه طبيعة البشر”، مضيفاً: “المستشفى مفتوح وبإمكانكم أن تحضروا لجنة خبراء من الأطباء الذين يعملون في أوقات الحروب ليطلعوا على الملفات وعلى وضع الجرحى عند الإصابة وعلى طبيعة الإصابة وأعداد الجرحى الذين كانوا يصلون إلى الطوارئ وكيف كانت النتائج بشكل عام”.

تساهل مع المستشفيات

دعت إيلان عبد الحق في تموز/ يوليو 2017 قادة الألوية العسكرية وقادة المحاور التابعين للحكومة الشرعية في تعز للاجتماع والتوقيع على محضر يمنع إحالة الجرحى إلى أي من المستشفيات المتعاقدة مع مركز الملك سلمان. وقالت إنها تلقت رسالة (أطلع معد التحقيق عليها) من مندوب وزارة الصحة اليمنية في مركز الملك سلمان، حسين الغانمي جاء فيها: “وصلني بلاغ أنك تجمعين توقيعات لإلغاء العقد مع المستشفيات الخاصة، بدلاً من إعطائنا الإثباتات التي تؤكد ضعف أداء المستشفيات وعدم توفر الإمكانيات فيها”. وأضاف: ” هذا التصرف قد يؤدي إلى حرمان الجرحى من الحصول على الخدمات الطبية، وأن المستشفيات مثل العباس، وتعز، والروضة، غير مقبولة لدى مركز سلمان بصورة نهائية”.
وفي 25 تموز/ يوليو 2018، رفع محافظ تعز رسالة إلى المشرف العام في مركز الملك سلمان الدكتور عبد الله الربيعة، تطلب إيقاف التعاقد مع مستشفى البريهي التخصصي في تعز “نتيجة الشكوى المتكررة من الجرحى، وكثرة الأخطاء الطبية، وعدم جاهزية المستشفى لعلاج الجرحى من حيث الكادر والتجهيزات”، وفق المذكرة التي حصلنا عليها.
من جانبه، أرسل وزير الصحة والسكان السابق، ناصر باعوم، رسالة إلى مركز الملك سلمان في نفس اليوم طلب فيها استمرار التعاقد مع مستشفى البريهي.
وقال محافظ تعز السابق أمين محمود: إن مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية رفض تصحيح مسار العقود، وهدد بوقف جميع المساعدات الإنسانية التي يقدمها للمحافظة إذا أصرت السلطات المحلية على مطالبة بتصحيح العقود في المستشفيات.
قال وزير الإدارة المحلية السابق ورئيس اللجنة العليا للإغاثة، وهي هيئة تابعة للحكومة اليمنية، “تحدثت مع وزارة الصحة اليمنية عدة مرات حول أهمية تصحيح وتقييم حالة العقود مع المستشفيات الخاصة، وتحديداً مستشفى البريهي ولكن دون جدوى كما بحثت الأمر مع نائب رئيس الوزراء السابق عبد العزيز الجبارى”. وأضاف: “هناك وسطاء في كل المستويات يعملون على ترسية العقود على من يريدون من المستشفيات”.

مستشفيات غير مؤهلة

تنص المادتان 12 و14 من العقد الموقع بين مركز الملك سلمان والمستشفيات على “توفير جميع الأجهزة الطبية والتشخيصية والعلاجية والأدوية والمستلزمات الطبية لعلاج الحالات، وتوفير جميع التخصصات الأساسية لحالات الجرحى إما بالتعاقد الدائم أو التعاقد المؤقت، أو من خلال استشارة طبية، شريطة تواجد أطباء على مدار الساعة مع الطاقم الفني والإمكانيات من أجهزة وأدوية”.

أجرى معدّ التحقيق مسحاً ميدانياً لتلك المستشفيات، تضمّن دراسة فنية للتأكد من مطابقة المنشآت الصحية لمعايير السلطة المحلية المشروطة للحصول على عقود مركز الملك سلمان، غير أن مستشفى البريهي ومستشفى الروضة رفضا التعاون مع الفريق في عملية المسح.

وأظهرت نتائج المسح الميداني أن المستشفيات عبارة عن مبانٍ سكنية لم تصمَّم كمستشفيات طبية، تخالف الشروط الفنية والهندسية المنصوص عليها في القانون اليمني رقم (60) لسنة 1999.

وتنص المادتان 18 و22 من اللائحة التنفيذية للقانون نفسه، في 15 فقرة متتابعة، على الشروط الفنية والهندسية، بدءاً من تصميم المباني كمستشفى وانتهاء بلون الجدران.

وتثبت تقارير الرقابة الرسمية أيضاً، أن الثلاثة المستشفيات التي تم التعاقد معها (الروضة، والبريهي، والصفوة) غير مؤهلة ولديها نقص في الموارد وتفتقر إلى الكوادر الطبية الماهرة في انتهاكات صارخة لشروط العقود ومعايير السلطة المحلية التي وضعت للمستشفيات المتعاقدة مع مركز سلمان، بحسب ثلاثة تقارير على الأقل كتبها مسؤولون صحيون تم تكليفهم لتفتيش المستشفيات.

وأكدت وثيقة التقرير الصادر بتاريخ 7 أغسطس/آب 2018 عن اللجنة الوزارية المكلفة بتقييم أداء مستشفى البريهي في تعز أن: “مبنى المستشفى مصمم على نظام شقق سكنية، وقسم الطوارئ غير مناسب لاستقبال الجرحى وعملية فصل الحالات حسب نوع الإصابة، ويفتقر المستشفى إلى المعدات الطبية والأجهزة الحديثة، وخاصة الأجهزة التشخيصية. مثل الطبقي المحوري، والرنين المغناطيسي، والأشعة الرقمية، وهي غير متوفرة بالمستشفى، وأكد التقرير أن المستشفى يجري عمليات نوعية للجرحى دون استخدام وسائل التشخيص المذكورة في هذه الفقرة. وذكر التقرير أن جهاز ” CRAM” في غرفة العمليات لا يعمل. وقالت الدكتورة إيلان إن: “معظم العمليات التي أجريت في مستشفى البريهي نتج عنها قصر في الساق من 3 إلى 8 سنتمتر بسبب عدم توفر جهاز CRAM اللازم في جراحة وشد العظام”. وقالت: “معظم الجرحى الذين خضعوا لعمليات جراحية في المستشفيات المتعاقدة مع مركز سلمان أعيد تأهيلهم وخضعوا للعمليات من جديد، وأرسلت تقارير لتقييم أداء المستشفيات إلى وزير الصحة ومحافظ تعز ومركز الملك سلمان وأخبرتهم أن هذه المستشفيات غير مؤهلة”.

وكتب جراح المخ والأعصاب والعمود الفقري المخلافي شهادة طويلة من 11 صفحة توضح بالتفصيل كيف تفتقر المستشفيات الخاصة المتعاقدة مع مركز الملك سلمان، إلى التجهيزات الأساسيات التي تؤهلها لتلقي مثل هذه المساعدة الضخمة. “لا يوجد في المستشفيات مختبرات حقيقة ولا توجد أنواع مختلفة من الاختبارات باهظة الثمن، ولا تتوفر معدات لجراحة العمليات النوعية، “من مات، دعه يموت. الأهم هو المال “. ووصف ما يجري في مستشفيات تعز بأنه “جرائم صحية أسوأ من النهب والقتل والسرقة؛ وفي الجرائم الصحية، يموت الشاهد”. وفقا للمخلافي.

“اسكوب” والرقابة على المستشفيات

مؤسسة “اسكوب” للرقابة والتقييم والتنمية الاجتماعية هي مؤسسة أهلية تأسست في العاصمة السعودية الرياض عام 2016 من قبل علي بن عبد المحسن الفليج، سعودي الجنسية، وعدد من اليمنيين بينهم الدكتور إيهاب القرشي الذي تولى منصب رئيس المؤسسة ومديرها التنفيذي، قبل أن يقدّم استقالته في حزيران/ يونيو 2018.

وطبقاً للمؤسسة، تعاقد معها مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في حزيران/ يونيو 2016، لتقوم بالرقابة على المشاريع الإغاثية والإنسانية المدعومة منه في اليمن، ومراقبة علاج الجرحى اليمنيين في مستشفيات القطاع الخاص في محافظات تعز وعدن وسيئون.

يقول القرشي إن من أكبر الصعوبات التي واجهت عمله “اعتراض مركز الملك سلمان على تنفيذ المؤسسة أعمال الرقابة والتقييم في مجموعة مستشفيات البريهي الخاصة في تعز، خاصة على العقود التي أبرمها المركز مع المستشفى في آذار/ مارس 2018”. ولم يردّ المركز على طلب للتعليق.

طلبنا من القرشي نسخاً من نتائج عملية الرقابة والشفافية والتقييم التي نفّذها المركز في محافظة تعز، إلا أنه رفض تزويدنا بها، قائلاً: “التقارير ليست للنشر”.

وأقرّت مؤسسة “اسكوب” بأن مستشفى البريهي في محافظة تعز يرفض التجاوب مع الفريق المراقِب التابع لها، وبأنه تسبب بمشكلة بين المؤسسة من جهة وبين مركز الملك سلمان من جهة ثانية، إذ أوقف الأخير عمل “اسكوب” كجهة مراقبة على مستشفى البريهي في تعز في العقود الأخيرة الموقعة مع المؤسسة.

الفساد في ملف العقود بين المستشفيات ومركز الملك سلمان، يبدأ بما يسمى “لجنة الإحالة” التي تقوم بالتوقيع على قوائم المرضى المقدمة من المستشفيات على أنهم “مؤهلون” للعلاج بموجب برنامج العقد المبرم بين المستشفيات الخاصة ومركز الملك سلمان.
وخلال الفترة منذ 2016 حتى 2020، تم استبعاد ثلاثة أطباء من لجنة الإحالة في تعز، وهي لجنة تابعة للمركز، وكذلك تم ابعاد مسؤول في وزارة الصحة اليمنية من الإشراف على هذا الملف من قبل وزير الصحة، وأفاد الدكتور عبدالباسط سلام عضو لجنة الإحالة السابق، أن مستشفى البريهي في تعز طالب بـ 240 ألف دولار لتغطية نفقات 60 حالة وهمية، 35 حالة غير موجودة في الواقع، بينما 25 حالة طفيفة. وأضاف: لقد تواصلنا مع الحالات والأطباء الذين يزعم المستشفى أنهم أجروا العمليات، ولم نجد أي حالات حقيقية. وجدنا عمليات وهمية من بينها حالات تم علاجها في مستشفى الثورة الحكومي.
وطلبت وزارة الصحة من سلام ومن زميله في لجنة الإحالة الدكتور نشوان الرباصي عدم الاشراف على مستشفى البريهي وترك هذه المهمة لرئيس اللجنة صديق وزير الصحة الدكتور مصطفى عبد الجبار. بعد ذلك تم تغيير سلام والرباصي من اللجنة واستبدالهم بشخص يدعى زياد طارق محمد من قرابة رئيس اللجنة وليس مختصاً، وشخص آخر اسمه موفق محمد محمد عبد الوهاب من كتائب حسم وحاصل على دبلوم صيدلة.
وقال عبد الباسط “ابلغنا رئيس اللجنة أن هذا المستشفى لا يقدم خدمات حقيقية لذلك تم استبعادنا من لجنة الاحالة”.
وقال مسؤول في وزارة الصحة كان مرتبطا بملف العقد مع مركز الملك سلمان (طلب عدم نشر هويته) إنه اطلع على تقرير مطول قدمه عضوا لجنة الإحالة سلام والرباصي وتضمن توصيات منها عدم قدرة مستشفى البريهي على الخدمة.
وأضاف المسؤول: “أي تقارير أو بيانات نرفض التوقيع عليها، نحن كمسؤولين في وزارة الصحة نتفاجأ من أن مدير مكتب وزير الصحة بالرياض يوقع عليها ويصدق عليها بخاتم الوزارة”.
وبحسب المسؤول: هناك لوبي يبدأ في مركز الملك سلمان وينتهي في المستشفيات، وأن ملف العقود مع مركز الملك سلمان يحتوي على فساد وتلاعب، ومن خلال وسطاء، تحصل المستشفيات على العقود مع المركز مقابل دفع نسبة 20 إلى 30 بالمائة للوسطاء.
وقال عضو إدارة مستشفى الحكمة الخاص في تعز، إنه عرض عليه التعاقد مع مركز الملك سلمان مقابل إعطاء نسبة تتراوح بين 25 و 30 بالمئة منها للوسطاء. وأكد أن “المستشفى رفض هذا العرض”. وأكد ذلك سامي الأبيض مدير الحسابات في مستشفى الروضة، قال: رفضت المستشفى دفع نسبة من قيمة العقود فرفضوا التعاقد معنا.

وتبقى دليلة حالة من مئات الحالات التي سرق الإهمال جزءاً من جسدها قبل أن يغيّر طريقة حياتها إلى الأبد.

عن الكاتب

تحقيق| وجدي السالمي

تحقيق| وجدي السالمي

صحافي يمني مختصّ في التحقيقات الاستقصائية، مؤسس ورئيس مؤسسة “FREE MEDIA” للصحافة الاستقصائيه.

شارك