فتاة بلا ساقين: الأول بترت بلغم والثانية بترها طبيب بلا مؤهلات

سياق القصة

في غرفة صغيرة ضمن شقة غير مكتملة البناء كانت تعيش دليلة (25 سنة) وتقضي فيها معظم وقتها، فهي تفضل البقاء في تلك الغرفة البائسة على الخروج إلى الشارع أو الحارة بسبب عجزها عن السير، بعد بتر قدميها.
دليلة التي كانت ضحية انفجار لغم ارضي، كانت أيضا ضحية لطبيب لا يمتلك خبرة ولا مؤهلات، هذا الطبيب الذي عمل في مستشفى البريهي الأهلي في مدينة تعز اليمنية حتى نهاية العام 2018، قرر بتر ساقها اليسرى بعد مرور فترة قصيرة على بتر اللغم لساقها اليمنى، لتصبح خلال شهر دون ساقين.
عندما زرناها أول مرة في أبريل/ نيسان 2018، كانت تتابع أخبار بلدها المنهك بالحرب والجوع عبر شاشة تلفاز صغيرة. في اليوم نفسه، كانت تستعد للذهاب إلى مقر اللجنة الطبية حكومية المعنية برعاية الجرحى. بدت حريصة على التأكد من إدراج اسمها في كشف الجرحى المقرر علاجهم خارج اليمن، فهي تحتاج لتركيب أطراف صناعية عوضاً عن ساقيها المبتورين. ومنذ عامين ودليلة تعيش على أمل يتأرجح بين وعود اللجنة الطبية ووعود مؤسسات المجتمع المدني التي تقدم نفسها أنها مهتمة بالجرحى.
قبل مغادرة غرفتها، لفت دليلة قماشاً مطاطياً على نهاية ساقيها المبتورين، واتجهت نحو الكرسي المتحرك. سوف تدفعها شقيقتها بهذا الكرسي مسافة تزيد على 500 متر، للوصول إلى مقر اللجنة الطبية في شارع جمال وسط المدينة. “سأذهب إلى اللجنة الطبية المختصة برعاية الجرحى. هل ستأتون معي؟ قالت دليلة: أريد الذهاب إلى اللجنة مفاجأة، فنحن كما تعلمون مواطنون عاديون لا نستطيع الوصول إلى المسؤولين بسهولة، وليس لدينا وساطة ولا أقارب في الحكومة.” استطردت دليلة قبل أن توجه كلامها لنا: “هل تستطيعون مساعدتي؟ لأني يائسة من الإعلاميين. لم يساعدني أحد في شيء”. ثم بدأت بسرد تفاصيل قصة بتر ساقيها.
ساقها الأيمن بتره لغم أرضي، لكن الأيسر بتره الأطباء بعد شهر وخمسة أيام من تضارب تشخيصاتهم وقراراتهم الطبية عن حالة الساق الذي تهشم في الانفجار. “كنت أبكي وأقول للأطباء: أنا فتاة شابة وعلى موعد للزواج، لا تبتروا رجلي الثانية أرجوكم، ليس لدي من يعولني.” لكن هذه الرجاءات لم تنقذ ساق دليلة من الخضوع لعملية البتر في 12 أغسطس/ آب 2017

اليوم الذي تغيرت فيه حياة دليلة للأبد:

كان السابع من يوليو/ تموز 2017، يوماً عادياً بالنسبة لدليلة قبل أن تخرج من منزلها في قرية الشقب بجبل صبر جنوبي مدينة تعز. خرجت برفقة ابنة عمها لجلب الماء من خزان يبعد عن المنزل مسافة 200 متر تقريباً، وفي طريق عودتها داست على لغم مدفون في طرف حقل زراعي. كان ذلك اليوم التالي لعودة دليلة مع والدها وبعض أفراد أسرتها، عدا الأم، من محاولة نزوح إلى دمنة خدير- جنوب شرق المدينة. نزحوا على إثر تحول القرية إلى جبهة قتال بين قوات الحكومة اليمنية، وبين قوات جماعة أنصارالله (الحوثيون)، لكنهم عادوا بسبب الصعوبة البالغة لظروف النزوح، ولأن موعد زواجها كان وشيكاً. لم تكن تعلم أنها ستعود إلى حقل ألغام. عندما انفجر بها اللغم، ظنت ابنة عمها أن قذيفة سقطت في المكان، فهرعت لإنقاذها. غير أن لغماً آخر انفجر بابنة العم، ثم تتابعت انفجارات ألغام أخرى.
صرخت دليلة بأعلى صوتها، فسمعها والدها المسنّ وخرج لإنقاذها على الفور. عندما كان يقترب منها حذرته من الاقتراب أكثر؛ “قلت له لا تقترب، فهناك الكثير من الألغام، لكنه اقترب وسحب ابنة عمي بواسطة شعر رأسها، وسحبني أيضاً بنفس الطريقة”. قالت دليلة.

الانتقال إلى حياة الألم والإعاقة:

بعد ساعة و45 دقيقة من السفر عبر طرق جبلية وعرة، وصلت ضحيتا حقل الألغام إلى مستشفى البريهي في مدينة تعز. يقدم المستشفى الرعاية الطبية لجرحى الحرب بالتعاقد مع مركز الملك سلمان للإغاثة، مقابل أربعة آلاف دولار عن كل جريح. تم إدخالهما قسم الطوارئ، المخالف للمواصفات الفنية المنصوص عليها في قانون المنشآت الصحية الخاصة، الطوارئ هو عبارة عن غرفة مساحتها 3 في 4 أمتار، يناوب فيه طبيب عام، نظراً لعدم توفر طبيب استشاري طوارئ ضمن كادر المستشفى.
وصف المستشفى حالة دليلة في تقرير طبي بهذا النص: “وصلت دليلة عبده أحمد محمد البالغة من العمر (25عاماً) بتاريخ 7 يوليو/ (تموز) 2017، وبعد الكشف عليها وعمل الفحوصات الطبية اللازمة والكشف السيني، تبين أنها تعاني من انبتار الرجل اليمنى من مستوى النصف الأخير للرجل اليسرى، وكسر متهشم في الرجل اليسرى، وتهتك في عضلات الرجل اليسرى، وفقدان جزء كبير من جلد الرجل اليسرى “. وأكد المستشفى في التقرير ذاته أن دليلة خضعت للإجراءات الجراحية المتمثلة بـ”بتر الرجل اليمنى من مستوى الثلث الأخير، وتثبيت كسر الرجل اليسرى بواسطة مثبت خارجي، وتنظيف الجراح، وهندمة العضلات وعمل قصبة تصريف، وخياط ما تبقى من الجلد للرجل اليسرى”.

نظراً لعدم توفر استشاري جراحة الأوعية الدموية ضمن كوادر المستشفى، تم استدعاء الطبيب مختص هو أبو ذر الجندي، عميد كلية الطب بجامعة تعز سابقا. أكد الجندي بأن الأوردة والشرايين في الرجل اليسرى، لا تزال سليمة. وتؤكد دليلة: “كنت أستطيع تحريك أصابع القدم اليسرى”. عند تواصلنا مع الطبيب أبو ذر عبر تطبيق الواتساب لاستفساره عن تشخيصه لحالة دليلة، أكد مرة أخرى أنه قام بقياس شرايين رجل المصابة، ووجد الشرايين سليمة. وتابع: “أخبرت المستشفى أنها لا تحتاج إلى تدخل جرّاح الأوعية الدموية، لأن إصابتها كانت في العظام والجلد والعضلات. أخبرتهم أن يستدعوا جراح تجميل وجراح عظام”.

كيف أصيبت بالغرغرينا؟

ستدعى المستشفى جرّاح التجميل فهمي العريقي، لكن بعد أن كانت الغرغرينا قد بدأت تنهش رجل دليلة. عند طرحنا عدداً من الاستفسارات عليه بشأن الحالة، قال الدكتور فهمي العريقي إن المستشفى استدعاه فعلاً، لكنه وجد عند معاينة حالة دليلة أن العظام كانت مكشوفة وقد تحول لونها إلى الأسود. “العظام حساسة وتتأثر إذا تُركت دون غطاء. لم أعمل لها أي تدخل جراحي. رجلها كانت قد تعفنت، وأنا قررت البتر بسبب التعفن.” قال العريقي.
فقدت دليلة مساحة من جلد ساقها الأيسر وعضلاته وعظامه بسبب انفجار اللغم، لكن جراحها ظلت مكشوفة طيلة شهر وخمسة أيام. “في البداية كانوا يجارحوا رجلي مرة في اليوم طيلة شهر تقريباً، ثم كانوا يجارحوها مرتين في اليوم، لأنها كانت بدأت بالتعفن. كنت أشم رائحة العفن المنبعثة من ساقي”. قالت دليلة، مؤكدة على أن مجارحة ساقها كانت تقوم بها ممرضات وليس أطباء أو طبيبات متخصصين. “كنت أتألم وأصرخ بأعلى صوتي أثناء المجارحة”. أضافت.

تعرضت دليلة للإهمال من المستشفى التي لا تتوفر فيها الشروط المطلوبة في عقود التمويل من قبل مركز الملك سلمان للإغاثة الانسانية الذي تعاقد معها أكثر من 19 مرة رغم معرفته بعدم توفر الامكانيات الطبية لدى المستشفى وعدم توفر الكادر الطبية المتخصص وعلمه بقيام المستشفى بعلاج الجرحى دون اجراء التشخيصات الطبية التي تضمن علاج الجرحى بمهنية، وفقا لوثائق الجهات الرسمية.
بحسب مصادر طبية متطابقة، فإن الإصابات التي تطال العظام والشرايين والأعصاب، تصير ذات حساسية شديدة عند المجارحة، فهل كانت أخطاء المجارحة مكملة لأخطاء التشخيص، أم أنها السبب الرئيس الذي أفضى برجل دليلة إلى الغرغرينا، ومن ثم إلى البتر؟
عند عرض التقارير الطبية الخاصة بدليلة على أخصائي جراحة العظام الدكتور وليد العبسي، قال: “وجود غرغرينا مع سلامة الأوعية الدموية هو بسبب زيادة ضغط غلاف العضلات بعد العملية الأولى، التي كانت غير مكتملة، أي عدم إزالة الأنسجة المتهتكة والميتة”. كما أوضح بأن “عدم فتح غلاف العضلات المحيطة بكل مجموعة من العضلات، يزيد الضغط تدريجياً حتى يضغط على الأوعية الدموية ويمنع وصول الدم للساق والقدم، وبالتالي تحدث غرغرينا”.

لم يوافق والد دليلة، على عملية البتر. في محاولة أخيرة لإنقاذ ساق ابنته اليسرى، لجأ إلى عارف جامل وهو مسؤول في السلطة المحلية يشغل منصب وكيل محافظة تعز. كلف جامل مدير مكتب الصحة في المحافظة، الدكتور عبدالرحيم السامعي، بزيارة المصابة ومعاينة حالتها. اصطحب الدكتور السامعي معه أخصائي جراحة العظام الطبيب أحمد أنعم في تلك الزيارة. “كانت الغرغرينا واضحة في الساق اليسرى لدليلة، وعندما كشفنا عليه كانت عظمة الساق تتفتت.” قال الدكتور السامعي، وأضاف: “الغرغرينا هي موت خلايا الأنسجة الحيوية بسبب نقص التروية الدموية أو الإصابة بالعدوى البكتيرية، وينتج عنها تغير لون الجلد إلى الأزرق أو الأسود أو الأحمر، وإفرازات قيحية ذات رائحة كريهة.” عندما طرحنا عليه إفادة استشاري جراحة الأوعية الدموية أبو ذر الجندي، ردّ السامعي إن جرّاح الأوعية الدموية يمكنه قول ذلك شفاهة، لكنه لن يستطيع إصدار إفادة طبية مكتوبة. حين طلب منه معد هذا التحقيق رفع تقرير رسمي عن معاينته لحالة دليلة إلى وكيل المحافظة، وتوضيح الخطة العلاجية للمستشفى لحالة علاجها، ردّ بأنه لم يُطلب منه رفع تقرير مماثل.
وكان تقرير تقييم البنية الأساسية الصادر عن مكتب الصحة العامة والسكان في محافظة تعز في 9يوليو/حزيران 2018 أوضح عدم جاهزية المستشفى الذي خضعت فيه دليلة للعلاج – على نفقة مركز الملك سلمان – من حيث الكادر والأجهزة والمبنى والخدمات الطبية التي تقدمها المستشفى، والتقرير عبارة عن مقدمة ونتائج وتوصيات: أن مبنى المستشفى لا يطابق فنيا المواصفات في القانون، وممرات المستشفى والأقسام خصوصا العمليات والمختبرات ضيقه، وقسم الطوارئ غير ملائم لاستقبال حالة الجرحى، ولا تتوفر غرفة مجهزة بأجهزة دعم الحياة في كل من الطوارئ والعناية المركزة، عدم توفر اجهزة الانعاش وعدم توفر مصعد كهربائي ولا سيارة اسعاف، ضعف تجهيزات كافة الأقسام خصوصا التشخيصية 85% من الكوادر يعملون بدون رخص مزاولة المهنة، وجميع رؤساء الأقسام لا تنطبق عليهم شروط ممارسة تلك الوظائف الفنية. وعدم توفر نظام مكافحة عدوى ولا نظام التخلص الآمن من النفايات الطبية، عدم استخدام وعاء خاص للأدوات جراحية بحيث يستخدم طاقم من الادوات لكل جريح (بمعنى انه يستخدم نفس الادوات لكل جريح وهذا يعمل على تلوث الجروح والتعفن)، تدني مستوى النافة العامة، نقص بيانات المرضى غير مكتملة، عدم وجود خطة للمواجهة الطوارئ والكوارث.

يتطابق التقرير مع تقرير اللجنة الوزارية المكلفة بتقييم اداء المستشفى ومدى جاهزيته لاستقبال جرحى الحرب واجراء العمليات النوعية والجراحية المختلفة وعلاج الحالات الوصلة له بجميع انواعها الصادر بتاريخ 7 آب2018. ورد في نتائج التقرير أن: “مبنى المستشفى مصمم على نظام شقق سكنية، وقسم الطوارئ غير ملائم لاستقبال الجرحى وعملية فصل الحالات بحسب نوع الاصابة، التجهيزات الطبية تفتقر المستشفى للأجهزة الحديثة وخاصة التشخصية الـ” CD-SCAN” والرنين المغناطسي والأشعة الرقمية غير متوفرة في المستشفى وتجري المستشفى العمليات النوعية للجرحى دون عمل الوسائل التشخصية المذكورة في الفقرة”.

هذه القصة ضمن تحقيق استقصائي يكشف تفاصيل بتر الأطراف في مستشفيات في تعز مدعومة من مركز الملك سلمان

شارك