الصحة النفسية في اليمن.. الكارثة الموقوتة

تحقيقات معمقة

صاحب الظروف الإنسانية القاسية التي يعيشها اليمن منذ ست سنوات سلسلة من الجرائم العنيفة، فضلاً عن نمو بعض الظواهر الاجتماعية مثل “زواج الأطفال” والعنف ضد المرأة. هذه العوامل مجتمعة، غالباً ما يدفع اليمنيون ثمنها من صحتهم النفسية. خلال العمل في ملف الصحة العقلية والنفسية ، واجهنا سلسلة من المشكلات النفسية التي أثرت على عدد كبير من اليمنيين، وقادتهم فعلياً إلى التشرد في الشوارع أو المصحات النفسية، أو أصبحوا معتقلين في المنازل خوفاً من وصمة العار التي تصيب المرضى. وثق الملف قصصاً متعددة لمجموعات مختلفة كنماذج لمن يعانون من مشكلات نفسية مثل الزواج المبكر وبتر الأطراف والرهاب الذي يصيب الأطفال المتضررين من القصف. بالإضافة إلى نماذج أخرى للمرضى السابقين الذين يجدون صعوبة في توفير الأدوية المضادة للاكتئاب. كما حقق الفريق في بعض المشكلات النفسية المكتشفة في بعض المدارس، وتنوعت أسبابها: تعاطي المخدرات، أو العنف الأسري، أو فقدان الأقارب. كشفت الأرقام عن مشكلة كبيرة في مجال الصحة النفسية والعقلية في اليمن، مع ارتفاع نسبة من يعانون من اضطرابات نفسية بسبب الحرب وتدمير البنية التحتية بالإضافة إلى إهمال الصحة النفسية والعقلية من قبل الجهات الحكومية أو منظمات المجتمع المدني وكذلك ندرة المتخصصين في هذا المجال بالإضافة إلى البرامج العشوائية. وتقدم (بعض) المنظمات برامج للدعم النفسي دون دراسة، كل هذا سينعكس على اليمنيين بشكل عام إذا لم يتم التخطيط لمواجهة الكارثة الصامتة من الآن كما يقول المختصون.

في أغسطس/آب 2017، بعد عامين من الزواج، انتحر الزوج بقتل نفسه بطلقات نارية، وكان لدى زوجته سمية (30 عاماً ) أفكار أخرى للمستقبل معه، كانت تمسح الدموع من وجهها الخالي من المشاعر إلا من الشعور بالقلق والاكتئاب، وتتحدث بهدوء مقلق: “لقد أصبحت حزينةً للغاية، لم أعد أهتم بأي شيء، لا أستطيع النوم، أنا لا أجوع أبدا، لا يبدو أن هناك أي طريقة للاستقرار، حياتي مثقلة بكل ذكرياتي، تعرضت للظلم، للسجن، للتعذيب، وحتى الاعتداء الجنسي”. ” خذوا بيدي”، قالت سمية. كلما أرادت أن تتحدث، عن تفاصيل صدمتها النفسية كان جسدها يرتعد ويجبرها على التوقف.

يسلط اكتئاب سمية (وهو شعور يتقاسمه بدرجات متفاوتة العديد من اليمنيين) الضوء على واقع محبط في اليمن. قلة من الناس ظلوا بمنأى عن الصدمة المرتبطة بسنوات من الاضطرابات وعدم الاستقرار، وهدفت العديد من الدراسات في الماضي إلى قياس ما يبدو واضحاً إلى حد ما من المعرفة العامة: الضربات الجوية، والتفجيرات، واشتباكات الشوارع، والقتل، وغياب القانون والنظام، وأسعار المواد الغذائية المتقلبة، وسوء الرعاية الصحية أو غيابها، أضف إلى ذلك الزواج المبكر، والعنف الأسري، والفقر، كلها عوامل ضغوط مزمنة لا تساهم في بناء صحة جيدة”. علاوة على ذلك، الإعاقة المرتبطة بالنزاع إذ أن آلاف الأشخاص فقدوا أطرافهم ويعيشون بإعاقة جزئية أو دائمة مع العبء النفسي المصاحب لها. منهم 570 شخص من مبتوري الأطراف في محافظة تعز وحدها، 90 في المائة منهم تواجههم صعوبة الحصول على أطراف صناعية ويحتاجون إلى عملية بتر جديدة وفقاً لمدير مركز الأطراف الصناعية في تعز الدكتور منصور الوازعي.

النجاة من القصف.. المعاناة من الصدمة

في 31 أغسطس/آب 2019، تعرض معتقل كلية المجتمع في محافظة ذمار شمالي البلاد، لغارات جوية من مقاتلات التحالف العربي بقيادة السعودية، على إثر ذلك قُتل وجرح أكثر من 150 سجيناً، ونجا أربعون آخرون. إبراهيم واحد من الذين نجوا، لكنه يعاني من صدمة نفسية شديدة، ولم يتمكن من الوصول إلى أي جهة تقدم الرعاية النفسية، وتبدأ قصة إبراهيم من اللحظة التي فقد فيها أمل الحصول على عمل يؤمِّن له ولأسرته الحد الأدنى من العيش الكريم، لقد انقطع مصدر رزق والده بفقدان وظيفته نتيجة إغلاق المحل التجاري الذي يعمل به في مدينة تعز. قرر إبراهيم التوجه إلى الضفة الأخرى من المدينة المشطورة بين أطراف الصراع.

قبل بدء الصراع المسلح في عام 2015، كان اليمن هو أفقر دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع أدنى مؤشرات التنمية البشرية في المنطقة، والآن اليمن في طريقها لتصبح أفقر دولة على وجه الأرض.
وفي عام 2014، كانت نسبة الأشخاص الذين يعيشون تحت خط الفقر 47 في المائة ومع استمرار الصراع وصل نسبة الفقر في اليمن إلى 79 في المائة مع وجود 65 في المائة من اليمنيين يعيشون في فقر مدقع، علاوة على كفاحهم اليومي من أجل البقاء، يتعرض غالبية اليمنيين للكثير من المصاعب التي تؤدي في نهاية المطاف إلى الاضطرابات العقلية والنفسية.
كما شهدت اليمن سلسلة من جرائم العنف القائم على نوع الجنس وزواج الأطفال منذ بداية النزاع، وخلال العمل على الصحة العقلية والنفسية، ووجهنا سلسلة من القضايا التي تفضي بالنهاية إلى أمراض نفسية من بينها قضيتين رئيسيتين: الزواج المبكر والعنف الجسدي. كلاهما إشكالي للغاية إبان السلم، ولكنهما أصبحتا أسوأ بكثير خلال النزاع، رغم صعوبة الحصول على بيانات

ويحذر استشاري الأمراض النفسية الدكتور طالب غشام من تفاقم مشكلة الصحة النفسية والتي يقول إنها ستؤدي على المدى البعيد إلى ظهور آلاف من المرضى النفسيين وبصورة غير متوقعة.
ومع ذلك، فإن التاريخ المتشابك لوصمة العار، وعدم كفاية التدريب في مجال الرعاية الصحية العقلية والنفسية للأطباء، وما تلاه من نقص في القدرة على العلاج، أعاقت الجهود المبذولة لبناء قدرة الرعاية الصحية العقلية والنفسية اليمنية أو تقديم الخدمات النفسية والاجتماعية للمجتمعات المتضررة.

حتى عام 2020، هناك سرير نفسي واحد لكل 200 ألف فرد، وطبيب نفسي واحد لكل 500 ألف فرد، وخلال الفترة من 2014 حتى 2017، وصل عدد الذين يعانون من أمراض نفسية وعقلية إلى نحو5.5 مليون يمني، وفق دراسة لمؤسسة التنمية والإرشاد الأسري حول تقدير انتشار الاضطرابات النفسية بين السكان في اليمن؛ يشكل الشباب من الفئة العمرية من16 سنة إلى 30سنة، نسبة 80 في المائة من إجمالي الحالات التي تعاني من أمراض عقلية ونفسية. وهو ما يمثل 50 في المائة من الشباب الذين يشكلون ثلث عدد السكان في اليمن. بالوقت الذي تظهر فيه مشكلة، وهي أن نظام الرعاية الصحية لم يلحق بالركب لاستيعاب المرضى العقليين.
وفي محافظة تعز، يحصل مركز الرعاية النفسية التابع لمؤسسة الرعاية النفسية الغير حكومية في محافظة تعز جنوب البلاد على التمويل من صندوق الأمم المتحدة للسكان لتقديم الخدمة العلاجية للمرضى النفسيين، والذي استقبل خلال النصف الأول من العام 2020؛ 1135حالة وأبرز التشخيص الطبي لهذه الحالات تضمن 352 حالة صرع، وجاء تشخيص انفصام الشخصية في المرتبة الثانية بعدد 275 حالة، ثم القلق واضطرابات المزاج 209 حالة، وبعد ذلك يأتي الذهان بـ 143حالة، و 50 حالة تخلف عقلي، و25 حالة اضطرابات الطفولة، و64 بدون تشخيص.
أعطت البيانات الإحصائية غير المكتملة أن عدد المترددين على مستشفى الأمراض النفسية وأربعة عيادات متخصصة في الطب النفسي في محافظة تعز، وصل إلى 15 آلاف شخص خلال الفترة بين 2017 وحتى منتصف العام 2020، كان الاكتئاب الحاد السبب الرئيسي الأول في اعتلال الصحة النفسية لديهم. الرقم فقط للمرضى الذين تصل حالتهم إلى الحادة، وتصبح أسرهم غير قادرة في التعامل معهم.

الصحة النفسية والأطفال

طفلتان في تعز خلال تواجدهما في مركز يقدم العلاج المجاني للمرضى النفسيين بينهم أطفال الصرع

في 2019، أجرت منظمة إنقاذ الطفولة دراسة لفهم مدى تأثير الحرب في اليمن على الصحة العقلية للأطفال، ذكرت الدراسة أن اثنين فقط من الأطباء النفسيين للأطفال متوفرين في جميع أنحاء اليمن وأن ممرضة صحة نفسية واحدة متاحة لكل 300ألف شخص. وأظهر استطلاع أجرته منظمة إنقاذ الطفولة أن 52٪ من الأطفال في اليمن لا يشعرون بالأمان أبداً عندما يكونون بعيدين عن والديهم. وأن 56٪ من الأطفال لا يشعرون بالأمان عند المشي بمفردهم وأن 36٪ من الأطفال لا يشعرون أنهم يستطيعون التحدث إلى شخص في مجتمعهم إذا كان حزيناً أو مستاءً. بالإضافة إلى ذلك، أفاد حوالي 38٪ من مقدمي الرعاية عن زيادة حديثة في كوابيس الأطفال.
في تعز، التي سجلت أعلى نسبة من الحالات المرتبطة بضغوط ما بعد الصدمة، نسبة 80٪ من الآباء أفادوا أن أطفالهم حزينون ومكتئبون، بما في ذلك 27٪ منهم يشعر أطفالهم بالحزن والاكتئاب بشكل دائم، وفي تتبع برامج الدعم النفسي التي نُفذت في محافظة تعز من قبل 7 منظمات محلية بدعم من منظمة اليونيسف ومنظمة الصحة العالمية، اتضح أن أقل من 5٪ من الأطفال المحتاجين للرعاية النفسية فقط تمكنوا من الوصول إلى المنظمات التي تنفذ برامج دعم نفسي.

فقدت آلاء وسام عبد الفتاح، البالغة من العمر 6 سنوات، مصدر الترفيه الوحيد لديها، جهاز iPad الخاص بها والذي كان مخصصاً لعالمها، فهي طفلة لا يمكنها الركض واللعب في أرجاء المنزل، بعد أن فقدت ساقها قبل أربع سنوات عندما أصيبت بجروح بالغة في أطرافها الصغيرة جراء شظية قذيفة أطلقها الحوثيون

وفي 2018، وجدت دراسة أخرى عن تأثير الحرب على الصحة النفسية للأطفال اليمنيين في مدارس صنعاء أن 79٪ ممن شملهم الاستطلاع، يعانون من مظاهر خطيرة لاضطراب ما بعد الصدمة.
وفي دراسة أخرى، أجراها الصندوق الاجتماعي للسكان في محافظة تعز اليمنية عام 2018، استهدفت 10232طالب وطالبة، 6071 من الذكور و4161 من الإناث، موزعين على 15مدرسة في مدينة تعز، وجدت أن ردود الفعل السلوكية من الصدمة النفسية التي ظهرت على الطلاب المستهدفين؛ هي العدوان والخوف والقلق وضعف التركيز والانطواء. وعند تقصي المشاكل النفسية داخل بعض المدارس في محافظة تعز اليمنية، وجد فريق إعداد الملف، انتشار تعاطي المخدرات، والعنف الأسرى، والتسرب من التعليم.

برامج غير مهنية

لقد تم إهمال الصحة العقلية والنفسية لعقود في اليمن، على الرغم من بعض الإصلاحات الطموحة لإنشاء وتنفيذ استراتيجية وطنية لمعالجة الصحة العقلية والرفاهية، لكن في الواقع كان تنفيذ هذه الاستراتيجية ضعيفاً، وتوقف مع اندلاع الصراع في 2015.
وقال الباحث في البيئة والصحة العامة الدكتور سامح العريقي، أنه خلال الفترة من 2011-2015؛ كان هناك محاولات وإصلاحات طموحة لإنشاء وتنفيذ الاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية في اليمن، التي تبناها الصندوق الاجتماعي للتنمية، لكن كان تنفيذ هذه الاستراتيجية ضعيفًا، وتوقف تمامًا عندما تصاعد الصراع في 2015.
ولا يستطيع ملايين الأشخاص الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية حيث لا يمكن توفيرها من خلال نهج المساعدات الإنسانية التقليدية. وبحسب الباحث سامح العريقي، “أن الصحة النفسية ظلت مهملة ولم يتم منحها الأولوية في مجموعة الصحة بين 2015-2018.
يضيف: في 2018 صممت منظمة الصحة العالمية (WHO) حزمة الخدمات الصحية الدنيا (MSP) بناءً على الحزمة الصحية الأساسية السابقة لوزارة الصحة لنظام الصحة المحلي وتدعي منظمة الصحة العالمية أن هذه الحزمة تختلف عن الحزم المماثلة في المنطقة لأنها تتضمن صراحة الصحة النفسية والدعم النفسي بالإضافة إلى الأمراض غير المعدية ويتميزMSP بسبعة تدخلات ذات أولوية، بما في ذلك الصحة العقلية. ولكن عندما نتعمق في ما تغطيه الصحة العقلية تحت مظلة MSP، ندرك أنه على الرغم من أنه يتضمن صراحة “الدعم النفسي” على مستوى المجتمع، إلا أن التركيز يظل كبيراً جداً على الرعاية في المستشفى ويركز على الجزء النفسي من الصحة العقلية.
من ناحية أخرى، القليل من المنظمات حذرة بشأن تدريب العاملين “غير المؤهلين” لتقديم المشورة أو العلاج في مجال الصحة العقلية على مستوى المجتمع، مؤكدة أن دورهم يجب أن يكون محدودا للغاية.
يؤكد ثلاثة من خبراء أمراض الصحة النفسية في اليمن؛ إن برامج المنظمات في مجال الصحة النفسية لا تلبي احتياجات الواقع الفعلية، فضلاً على أن المنظمات الدولية تعتمد في تنفيذ برامج الدعم النفسي على منظمات محلية غير متخصصة في برامج الصحة النفسية، وتستعين عند تنفيذ برامج الدعم النفسي بأشخاص غير متخصصين.
وعلق الاستشاري في الأمراض النفسية والعقلية الدكتور طالب غشام، وهو مسؤول في الجمعية الطبية اليمنية للأمراض العقلية والنفسية، ومدير سابق في مستشفى الأمراض العقلية والعصبية الحكومي بمحافظة تعز، بالقول: “أصبحت برامج الصحة العقلية والنفسية جزءاً من التجارة المعروفة في الحرب وتهدف العملية إلى الربح السريع للمنظمات المحلية، وللأسف وقعت بعض المنظمات الدولية في هذه المعضلة”

فيما يؤكد علي التبعي موظف في مكتب الصحة العامة في تعز، أن جميع برامج الدعم النفسي المنفذة في تعز لم تخضع للإشراف الفني من قبل مكتب الصحة المختص في البرامج المتعلقة بالصحة. وأشار نائب مدير عام مكتب التخطيط في تعز وهو الجهة المسؤولة على مراقبة تنفيذ المشاريع الإنسانية إلى عدم وجود برامج تقدم الخدمات العلاجية للمرضى النفسيين في تعز، إلا مشروع واحد فقط.
وقال رشاد حمود أستاذ الارشاد النفسي في جامعة تعز إن الدعم النفسي عبارة عن عملية متكاملة، ويجب أن تكون هذه الخدمة مبنية على أسس علمية صحيحة تخضع للتقييم من قبل المتخصصين، لكن بعض المنظمات للأسف الشديد تستدعي مدربين غير متخصصين في التدريب، الأهم بالنسبة لها أن المدرب لديه برنامج في الدعم النفسي دون أن يخضع هذه البرنامج لتحكيم ومراجعة المتخصصين.
يضيف: من وجهة نظري كخبير؛ البرامج التي تنفذ حالياً في الميدان لا تتعمق ولا تعالج المشكلات النفسية الشديدة وجميعها تتعامل مع الحالات متوسطة الأثر، أما الحالات الحادة فلا توجد برامج نفسية متخصصة في هذا المجال.
ومعظم البرامج في محافظة تعز عبارة عن مبادرات ودورات تدريبة للمعلمين ولا يوجد استهداف لفئات المجتمع المختلفة، للكبار، للأطفال، للناجين من الصدمات الحادة أو لجرحى الحرب، وأحياناً هناك برامج في ظاهرها الدعم النفسي وحقيقتها خارج هذا المجال أو تكون سطحية.
التدخل النفسي بحاجة إلى عمق وشمول وتكامل من الحالات البسيطة إلى الحالات الحادة التي تحتاج وقت طويل.
وقال إن متخصصي علم النفس من غير الأطباء كثر، وهؤلاء يمكن الاستعانة بهم في مجال الدعم النفسي والاجتماعي، لكن لا أحد يهتم بهم أو يستعين بهم في تخصصهم، نحن بحاجة إلى تشكيل مراكز متخصصة لتقديم الخدمات النفسية بشكل منسق وأدوار تكاملية بصورة منظمة، العلاج النفسي بحاجة إلى تمويل.

ندرة الأطباء.. أزمة مزمنة

يقسم الاستشاري في أمراض الطب النفسي الدكتور طالب غشام وقته بين ثلاثة مرافق تدار بشكل منفصل داخل تعز، ويدير إجمالاً، 200 حالة نفسية كل شهر، كثير منها يحتاج إلى علاج مكثف ورعاية متابعة لإجهاد ما بعد الصدمة والاضطرابات الأخرى.
وتواجه البلاد نقصاً حاداً ومزمناً في أطباء وممرضات الصحة النفسية، وتشير إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء في 2006، إلى أنه 45 طبيب صحة نفسية من بين الأطباء الأخصائيين في جميع التخصصات البالغ عددهم 8534 في كافة المحافظات اليمنية، وهو ما يعني طبيب نفسي واحد لكل 500 ألف شخص، وهذا هو نفس الرقم بالنسبة لعدد السكان عام 1980أي قبل 40 عاماً، وخلال أربعة عقود من الزمن زاد عدد الأطباء النفسيين 15 طبياً وطبيبة من الممارسين وأصبح إجمالي عدد الأطباء حتى 2020، 59 طبيباً نفسانياً فقط في البلاد، لكنهم موزعون بشكل غير متساو على خمس محافظات فقط، فيما 18 محافظة لا يتوفر فيها أطباء للأمراض العقلية والنفسية، وفقاً للاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية الصادرة في مارس/ آذار2010 عن الصندوق الاجتماعي للتنمية.
ويمارس 34 طبيباً نفسانياً العمل في صنعاء، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فيما 25 طبيباً يمارسون العمل في أربعة محافظات منهم 11 طبيباً في محافظة تعز، و6 أطباء في عدن و3 أطباء في محافظة الحديدة و5 أطباء في حضرموت، لكن بسبب الحرب في اليمن تغيير كل شيء، في محافظة تعز تحديداً، يوجد خمسة أطباء متخصصين يعملون في العيادات الخارجية، لعدد نحو 5 ملايين مواطن بواقع طبيب لكل مليون شخص وهذا رقم صادم مقارنة بالكثافة السكانية في ظل وجود حالة تعاني من أحد أشكال المرض النفسي في كل عائلة. وفقا لإفادة الدكتورة إيلان عبدالحق وهي مسؤولة على قطاع الصحة في السلطة المحلية بمحافظة تعز.
وقالت عبدالحق، أنها ناقشت مع قيادة كلية الطب بجامعة تعز موضوع ندرة الأطباء النفسيين وطلبت من قيادة الكلية شرح أسباب عدم فتح برامج الدراسات العليا في الطب العقلي والنفسي، بالإضافة إلى تقديم المنح الدراسية خارج اليمن لخريجي كلية الطب لدراسة الأمراض العقلية والنفسية. كان رد قيادة كلية الطب أن “المجتمع يوصم حتى الطبيب الذي يعالج الأمراض العقلية بأنه سيصاب بالجنون”. وقالت إن الموضوع يحتاج إلى تثقيف المجتمع وتثقيف طلاب كلية الطب وحثهم على دراسة الأمراض العقلية.

ومشكلة ندرة الأطباء في مجال الطب النفسي على وشك أن تزداد سوءاً بسبب شيخوخة القوى العاملة الحالية للأطباء النفسيين النشطين، مما يعني أن موجة التقاعد وشيكة، ولا توجد استراتيجية واضحة للحكومة للتعامل مع هذه الأزمة.
ونظرًا لإحجام طلاب الطب عن ممارسة تخصص الطب النفسي أشار إلى أنه منذ عام 2008 تم استقدام أربعة خريجين فقط من كلية الطب لتدريب وممارسة الطب النفسي في محافظة تعز.
ويحث خبراء الصحة النفسية، الحكومة اليمنية على العمل لدعم برامج الإقامة الطبية كوسيلة للتعامل مع هذه الأزمة التي ستواجهها البلاد في المستقبل القريب، حيث يستغرق تدريب أطباء في هذا المجال وقتاً وهذا يعني أن اليمن بحاجة إلى إعادة تنشيط وتوسيع برامج البورد العربي لتلبية الحاجة الفعلية للأطباء في مجال الطب النفسي.
وطبقاً لدراسة أجرتها جمعية الصحة النفسية اليمنية (YMHA) في عام 2006، يوجد 3580 متخصصاً حاصلين على درجة البكالوريوس في علم النفس على الأقل داخل اليمن، من بينهم 139شخصاً يعملون في المؤسسات الأكاديمية العليا، وبحسب احصائيات الجمعية، فإن هناك 198ممرض صحة نفسية، 41٪ منهم لم يحصلوا على وظائف، و13٪ تم استيعابهم في المستشفيات والعيادات والممارسات السريرية، و7٪ في المؤسسات البحثية و20٪ في الإدارات الحكومية 9٪ في الجامعات والمدارس.
ومن خلال تقصي واقع الكادر البشري في الصحة العقلية والنفسية، اتضح أن الوظيفة المهنية لعلم النفس في اليمن لا ينظمها القانون، والتنظيم متروك لتفسير وزارة الخدمة المدنية، والتي كثيراً ما توظف علماء نفس في وزارة التعليم كإداريين أو مدرسين في المدارس، بينما ممارسة علم النفس العيادي كانت ولا تزال تحت رقابة وزارة الصحة؛ في هذه الحالة هناك حاجة لقانون ينظم ممارسة علم النفس وإنشاء هيئة تنظم اختصاصهم في هذا المجال كما يقول الباحثين في مجال الصحة العقلية والنفسية، وفي الظروف الحالية ومع ما تعيشه البلاد من انتكاسات في الصحة العقلية والنفسية لم يكن لعلماء النفس أي تأثير ملموس على الحياة العامة والخاصة، ولا على المؤسسات الحكومية، ولم يتم إشراكهم كمساهم في مواجهة أزمة الصحة العقلية والنفسية التي تواجهها اليمن.
بالاستناد إلى توجيهات دليل التدخلات الإنسانية لبرنامج رأب الفجوة في الصحة النفسية التابعة لمنظمة الصحة العالمية / ومفوضية شؤون اللاجئين؛ يوصى بوجوب أن يكون لكل مرفق صحي في حالة الطوارئ (بما في ذلك العيادات المتنقلة والمستشفيات العامة والمستشفيات الميدانية ومرافق الرعاية الصحية الأولية) موظف واحد على الأقل، تم تدريبه والإشراف عليه لتحديد وإدارة مشاكل الصحة العقلية لدى البالغين والأطفال، لكن هنا في اليمن جميع المستشفيات العامة ومرافق الرعاية الصحية الأولية لا يتواجد فيها هذا الموظف، ويعاني نظام رعاية الصحة العقلية من نقص التمويل، وانخفاض التزام السلطات وندرة العاملين في مجال الصحة العقلية.
في مستشفى الأمراض النفسية الحكومي في تعز يعمل طبيب واحد ومختصين في الدعم النفسي، وفقاً لإفادة المدير الفني في المستشفى وأستاذ علم النفس في جامعة تعز، ياسين القدسي، ويؤكد مدير المستشفى الدكتور عادل ملهي أن المستشفى عبارة عن مبنى فارغ، وبميزانية لا تغطي 30 % من الاحتياج الفعلي.
يواجه المحتاجون للعلاج أو للدعم النفسي والاجتماعي من المرضى النفسيين الأكثر ضعفاً صعوبة في الوصول إلى مراكز الدعم النفسي التي تقدمه المنظمات، في ظل انعدام الخدمات الصحة العقلية والنفسية والعلاجية في المستشفيات التي تديرها الدولة في المدن الكبرى.

إدارة وصمة العار

بالنسبة للأفراد الذين يكافحون بالفعل للوصول إلى الخدمات النفسية والاجتماعية بسبب تقلص القدرات أو الصعوبات المالية، فإن الوصمة الاجتماعية المحيطة بالمرض العقلي في اليمن تعمق الشعور بالأزمة.
ويجمع مسؤولين وأطباء الأمراض العقلية ومقدمي الرعاية، أن التغلب على الحواجز التي تمثلها وصمة العار المنتشرة يعد عقبة كبيرة أمام توفير العلاج الفعال.
وفق وكيلة شؤون الصحة في محافظة تعز الدكتورة إيلان عبدالحق، أن الوصمة المجتمعة وتدني مستوى الوعي تسببان تعقيدات في التعامل مع الأمراض العقلية والنفسية بشكل غير علمي، لذلك يحاول الكثيرون إخفاء المرض، ويتناولون الأدوية المخصصة للأمراض العقلية بدون وصفة طبية، مما يؤدي إلى تدهور حالتهم الصحية.
استشاري الأمراض النفسية الدكتور طالب غشام يرى أن المجتمع والحكومة ينظر إلى المريض النفسي على أنه مجنون أو فاقد للعقل، ويتعاملون مع قضية الأمراض النفسية بفكرة العصور الوسطى.
وفكرة أن الصحة النفسية تحتاج إلى معالجة بالأدوية مثل الصحة العامة، ليست فكرة معرفة شائعة؛ هذا هو السبب في أن الأشخاص لا يسعون للعلاج المبكر ويرفضون تناول الأدوية؛ وأدت هذه الوصمة أيضاً إلى نقص التمويل لبرامج الصحة النفسية أو تدريب الأشخاص ليصبحوا مستشارين أو أخصائيين نفسيين، لذلك لم يكن هناك متخصصين على المستوى المحلي للمدن اليمنية. وغالباً ما يتم تقديم مشاكل الصحة العقلية كمرض جسدي، لذلك بدلاً من القول إنهم يعانون من القلق أو الاكتئاب، سيشكو المرضى لمقدم الرعاية الصحية من آلام الظهر أو الرقبة أو البطن ويقوم الطبيب بمعالجة هذه الأعراض بدلاً من المشكلة الأساسية للقلق أو الاكتئاب. وهذا لا يعالج مشاكل الصحة العقلية.
ويقول مدير مستشفى الأمراض النفسية في تعز، الدكتور عادل ملهي، نتيجة قلة الوعي لدى الأسرة والمجتمع اليمني يتم تجاهل حالة المريض النفسي عندما يبدأ في العزلة، وقد يستمر المريض في حالة العزلة لسنوات، ولكن للأسف الأسرة والمجتمع لا يلعبان دورهما في الوقت المناسب. حيث تقرر الأسرة زيارة الطبيب النفسي أو المستشفى عندما تتدهور صحة المريض ويبدأ التشرد في الشوارع، أو عندما يصل المريض إلى حالة حادة ويبدأ بممارسة العنف داخل المنزل، أو بعد نصيحة رجال الدين أو المشعوذين، حينها تضع الأسرة قيوداً حديدية على يده وتحضره إلى المستشفى للتخلص منه، بعد أن مكث في حالة عزلة نفسية في المنزل لمدة تزيد عن عامين، وهنا دورنا في المستشفى يصبح دور بديل للمجتمع والأسرة في رعاية هذا المريض.

تابعونا.. في الجزء الثاني من هذه الملف:

شارك في إعداد وتحرير هذا الملف

وجدي السالمي

وجدي السالمي

صحافي يمني مختصّ في التحقيقات الاستقصائية، مؤسس ورئيس مؤسسة “FREE MEDIA” للصحافة الاستقصائيه.

شارك في التحرير| سلمان الحميدي

شارك في التحرير| سلمان الحميدي

صحافي يمني مستقل، عمل سكرتير تحرير لصحيفة الأهالي، قبل أن ينتقل للعمل كمدير للتحرير في صحيفة حديث المدينة الأهلية، يكتب للعديد من المواقع الأخبارية، إلى جانب عمله كمحرر مع العديد من المؤسسات الإعلامية والحقوقية.

تصوير| حمزة الجبيحي

تصوير| حمزة الجبيحي

مصور متخصص بالتصوير الفوتوغرافي والفيديو، ويعمل مديراً تنفيذياً في مؤسسة دايمواند ميديا للوسائط المتعددة.

شاركة| الفت يوسف

شاركة| الفت يوسف

صحفية تقنية متخصصة في البحث والتدقيق، تعمل سكرتارية تنفيذية في مؤسسة FREE MEDIA، شاركت في العديد من التحقيقات المعمقة؛ أبرزها تقرير يرصد بالأدلة جرائم انتهاكات أطراف الصراع في اليمن على المنشآت الطبية مع الأرشيف اليمني.

شارك